العناقُ الأخيرُ

ينامون تحت سقف بيتٍ متهالك ،يراقبون أعمدته التي أناخ عليها الزمنُ بكلكله ،يسمعون أنين هذه الأعمدة ،فهو يشبه أصوات أرواحهم المتكسِّرة ..يحاولون أن يخلدوا إلى النّوم ،وأن يشغلوا أنفسهم بُحلمٍ ينسيهم صورة هذا السّقفِ المتهالك،ينفضون غبار الليل عن اعينهم ؛ليضيؤوا عتمته بنورٍ يسكن أجفانهم المطبقة،ويتسلل إلى أرواحهم ،وقلوبهم المتهشمة ،يشغلون أنفسهم بالأمل ،يتسامرون بصمت ،ويخاطبون الأمل ويطلبون منه الصفح ؛لأنّهم أسهبوا فيه ،يقطع احلامهم صوت الباب المتآكل من الصّدأ ،وقد أتعبه الوقوف بوجه الزمن فلم يعد قادرا على سدِّ تلك الفجوة ،ليلفظَ أنفاسه الأخيرة يأمِّلُ نفسه بأنَّ الرّيحَ ستحملُ معها الخلاص لساكني هذه الدّار،يسمعون نشيج النّافذة يتعبها الصّمود ،تجابه الرّيح بكلّ قوة حتّى وإن فقدت إحدى ذراعيها التي تسقط منكسرةً ،وقد هشمتها الرّيح ،وأحالتها بلا روح..في هذه الدّار يعتبرون الوسائد لها أرواح كالنوافذ، والأبواب ،والأعمدة تماما ،يعتبرون كلّ قطعة أثاث تسكن هذا الدّار: هي قطعة نُفِخت فيها الرّوح ،يبكون لفراقها ،ويحزنون لفقدها،فقد جمعتهم سنون لاعدد لها وقد تكون الوسادة أو النافذة ، لها تاريخ ميلاد تشارك به أول طفلٍ هو الآن شابٌ في العشرين من عمره؟!!
بعد أن سقط الباب مودّعا ماتبقى من أشلائه على حافة الجدار،ولحقت به النّافذة إلى مصيرها المحتوم،هاهي الجدران ترفضُ البقاءَ خلفهم،تهتّزُّ بشدّة ،تترنحُ كثملٍ متعبٍ مرهق ،تغطُّ العائلة في نومٍ عميق ،يسقط الجدار الأول،يعانقه الجدار الآخر ،يتشابك معه الجدران الأخرى تشابكا فظيعا ،ترضُّ الحجارةبعضها البعض؛ لتضربَ؛ بكلّ قسوة ،تندثر الأعمدة والحجارة والأبواب والنوافذ فوق رؤوس ساكنيها ،يهبُّ الصّباح ليتنفّسَ من جديد …يصحو أهل القرية ؛ليجدوا ركاما وغبارا قد انطلق إلى السّماء يطوف مع الرّيح ،فعلموا أنّهم كانوا يحلمون بأنّ يصيروا غبارا كي يستطيعوا أن يسكنوا جميع البيوت ،بدأ النّاس بانتشال جثثهم فوجدوا رجلا يعانق الباب وامرأة تعانق النافذة وأطفال تحتضن الجدران فكانت الدّار وفيّة حتى في موتهم …هكذا يموت النّاس في بلادي ..يموتون متعانقين …يموتون وهم يحلمون….

شاهد أيضاً

ملامح الرمزية في قصيدة ( صلاة في بيت عرار ) للشاعر محمد البريكي إعداد / محمد أحمد حسن

ملامح الرمزية في قصيدة (صلاةٌ في بيت عرار) للشاعر محمد عبدالله البريكي بقلم / محمد …