قصة قصيرة بعنوان : …… بعين واحدة

                                    …..بعين واحدة !! 

       كان –كعادته- منهمكا في محراب عمله ، لا يصرفه شيء عنه ، حتى اجترأ على إخراجه منه اتصال هاتفي متكرر ، فأخرج الهاتف من جيبه ضجرا ، فمن يا تُرَى يُلِح عليَّ هذا الإلحاح الغريب ، هكذا قال لنفسه،  إنها ابنته الوحيدة في العقد الثالث من عمرها ، و ذات الوجه الطفولي الشاحب المريضة قائلة في عجل : أبي ، أبي ، لقد حاولت إرسال رسالة من هاتفنا الأرضي إلى مكتب التلغراف ؛ ليرسل إشارة إلى عملي بمرضي الشديد  ، ولكي أحصل على إجازة مرضية ، لكنني وجدته معطلا .

  كانت ابنته دائما تأخذ إجازات مرضية كثيرا ؛ بسبب بنائها النحيل المتصدع  أمام هجمات الأمراض التي لا تتوقف عن مطاردتها .

 فسألها والدها  متعجبا :  وكيف تستخدمون النت و الخط الأرضي معطل ؟! ، فقالت : يبدو أنهم في طريقهم لإيقافه بشكل كامل إن لم ندفع قيمة الاشتراك بسرعة .. بسرعة … بسرعة . قالتها بصوت متهدج ، كأنها تطلب دواء شافيا لها من آلامها!!.

   كان عليه أن يصل سريعا ، بأية طريقة ، إلى مركز شركة الاتصالات الحكومية الشهيرة في البلدة ، فاستأذن من مديره بشكل رسمي ، كما اعتاد ، ثم هبط الدرج الهوينى مُمسِكا بحاجزه احتراسا من خيانته له ؛ فليست قدماه قادرتين على مساعدته لتحقيق مراد ابنته ، ولا يمتلك سيارة تطيعه بسرعة لهدفه ، وهو مِمَّن عصى شيطانه ، فرفض كل إغراءات أصحاب المطالب الشيطانية الذين يترددون يوميا عليه ، ويحاولون إغواءه بكل الطرق ؛ ليحقق لهم ما يريدونه ، ويعصي ضميره ، أو يلقي به في غياهب الجب ، ولكنه أطاعه ، وعصى شيطانه الذي ظل يوسوس له قائلا له تارة : يجب عليك أن تُؤَمِّن مستقبل أولادك  بعدما أضعت حاضرهم . وتارة يقول له : لم يعد لك إلا القليل ، وتُحال إلى سن التقاعد ، وعندها لن تصمد أمام عوادي الزمان القزحية ، ولن ….و لن …… ولن ….. .

  وساوس كثيرة ظلت تهاجمه ، ولكنه لم يسلمها نفسه الأبية ؛ فآثر السير على قدميه إلى الآخرة الباقية على الجري بسيارة فارهة حديثة إلى جهنم الخالدة .

   وقف على أول الطريق ملوحا لـلصغير السريع الشهير باسم “التوك توك” ، فليس أمامه مفر من مصادقته الآن ، بالرغم من عداء جسده المتزايد له ؛ لأنه ما إن يُحشرداخله حتى يرفضه ؛ فيصدمه ، ولكن هذه المرة مكره أخاك لا بطل ، فأوعز إلى سائقه في الإسراع ، فانطلق ينهب الأرض المليئة بالمطبات التي لا يمكن تفاديها أو مراوغتها نهبا ؛ كأنها صُنِعت عمدا لا سهوا بمهارة مجرم بارع ، وبالرغم من محاولات السائق مراوغتها والتقليل من صدماتها وآلامها وقع في الكثير من مصائدها ، بسبب رغبة الرجل في الوصول سريعا  ، فاصطدمت رأس الرجل بسقفه صدمات متتابعة ، فأخذ يلعن السائق والطريق لعنا كبيرا ، حتى كاد يصارعه لولا بقية من خلاق .

    وأخيرا وصل للمبنى الشاهق الفخم النظيف ، وكانت تعلوه إعلانات فخمة كبيرة تحمل صورا براقة لنجوم الأرض اللامعة بألوان زاهية ، وابتسامات خادعة ، وسعادات غامرة واهمة ، وهم يستخدمون خطوط الشركة داعين الناس للإسراع بالاشتراك فيها قبل ارتفاع الأسعار!!.

    وعندما وصل أخذ رقما من الآلة ، وانتظر دوره في الصالة الكبيرة التي لم تكن مكتظة بالجمهور- على غير عادتها- ؛ فالفواتير كثيرة وباهظة ، وربما قد عزف الناس عن تسديد فواتيرهم لضيق ذات اليد ، أو لأنهم ألغوا اشتراكات هواتفهم الثابتة ، واكتفوا بالهواتف المحمولة التي صارت في يد كل فرد من أفراد كل أسرة : صغيرها قبل كبيرها  .

ــــــــــــــــــــــــــ: ولكن لا بأس سأنتظر دوري ،  بالرغم من وجود أحد أصدقائه الموظفين ، ولكنه لا يريد تحمل مجاملة ، قد يدفع ثمنها لاحقا أضعافا مضاعفة!  .

   جلس محاولا الإنصات لصوت المنادي الآلي ، وهو يُنادي على الأرقام ، لعل رقمه يقترب من بعيد ، وفي تلك الأحيان وجد رجلا عجوزا قد حان دوره ، قد زاده الله بسطة في الجسم ، تظهر عليه آثار النعمة ، تخفي وراءها سنينا عديدة قد اجتازها ، وما زال يطمع في اجتياز غيرها !  ،  فقام معتمدا على رفيقته الحمولة له دون ملل أو كلل ، ولا تعصيه أبدا ما أمرها ، وجلس أمام الموظفة الشابة الصغيرة التي كست المساحيق  ذات الألوان القزحية وجهها ، وهي تلوك العلكة دون حياء ؛ فاستفزه ما رآه ، فاندفع دون تمهل طالبا منها إلغاء اشتراكه في الشركة ، فسألته بثقة تامة عما دفعه لهذا القرار ، فعندها حل لأي مشكلة قد يتعرض لها أي مشترك ، هكذا ظنَّت ، ولكنه أيقظها من ظنها ، قائلا لها بحزم ودون تحفظ : شركتكم لصة ، لصة ، فردَّت عليه بهدوء متعجبة من قوله ومن جرأته : لماذا يا سيدي ؟ ، فقال لها : كل شهر ندفع اشتراك الباقة ، ولا تعمل سوى أسبوع ، وتنتهي سريعا ، وأضطر تحت رغبات أبنائي أن أزيد قيمتها ، ولكن بلا جدوى . فقالت له كم عدد المستخدمين لها ؟ ، ــــــــــ : أربعة ، فقالت له : إن باقتك سعتها لا تتحمل استخدام هذا العدد كل شهر ، فرد عليها منفعلا : لماذا لم تخبرني الشركة بهذا قبل أن أقرر الاشتراك في هذه الباقة اللعينة ؟ .  لقد زينت لنا الشركة مميزات هذه الباقة ، حتى وقعنا في شباكها ، وفوجئنا بضعفها ، لماذا هذه المخاتلة ؟! ، لماذا ؟ ! ، لقد عشت كثيرا بالخارج ولم أتعرض لمثل هذه الألاعيب والاستغلالات والاحتيالات ، ارحمونا ، ارحمونا ، يرحمكم من في السماء ، سأذهب إلى شركة أخرى لعلها تكون أصدق منكم … أصدق منكم !! .

   وخرج مسرعا يدفع رفيقته دفعا في الأرض ، فشيعته نظرات الموظفة حتى باب الخروج ، وهي تتمتم : لعل.. لعل !! .

   وانصرف الرجل غاضبا حانقا على تلك الشركة التي ملأت  وسائل الإعلام بإعلانات كثيرة وغالية عن مميزاتها وجودتها المزعومة ، مستخدمة في الإيقاع بفرائسها في حبائلها شخصيات مشهورة من نجوم المجتمع ؛ فأثَّرت على اختيارات الناس لها !!.

   وبعد وقت ليس بالكثير سمع رقمه يُنَادى عليه ، فهب واقفا نحو الموظف المسئول ، فأخبره بقيمة الاشتراك المتأخر؛ ففوجئ بارتفاع قيمته دون سابق إنذار ؛ فدفع مرغما وعازما على إلغائه  المرة القادمة ، ولكن الموظف أخبره بأن الحرارة ستعود لهاتفه بعد ساعات ، وهذا يعني أن ابنته لن تستطيع استخدامه لإبلاغ عملها في الموعد المسموح به بقيامها بإجازة مرضية ، ولكن ماذا يفعل ؟ ، فكَّر بأن يصعد للدور الثالث الكائن به مكتب التلغراف ؛ ليبلغه بنفسه بطلب ابنته ، فصعد الدرج منهكا على فترات ، يستريح لحظات ليلتقط فيها بعض أنفاسه ، ثم يواصل الصعود ؛ حتى بلغ مأربه ، وأخذ يبحث عن مكتب التلغراف ، حتى رآه مغلقا ، فحاصرته الخيبة والحسرة ، ورفع نظره راجيا الله إنقاذه ، ثم أرسل بصره تارة أخرى نحو المكتب ، ووجد قدميه المنهكتين تقتربان أكثر من باب المكتب الزجاجي ؛ فوجده كبيرا  خاليا إلا من امرأة محنية الظهر والرأس خرساء الأساور ، بينها وبين ملابسها صراع غير متكافئ ؛ فتبرز منها نتوءاتها من ملابسها السوداء الحزينة القميئة الرثة ، وقد أغرقت عينيها في أوراق أمامها ، قد استسلمت لها ، وهي مُمسِكة قلما مهترئا يحاول الفكاك من بين إصبعيها ، فيصرخ في وجهها وعلى كم يدها نافثا بعض ريقه فيه ، ولكنها لا تعبأ بمحاولاته نيل حريته ، فتمسك بتلابيبه بكل قوة .

  سيطر عليه التعجب  مما رآه ، فطرق الباب فأشارت إليه بالدخول دون أن ترفع رأسها ، فسألها : هل موعد انصراف الموظفين قد حان قبل الموعد ؟! ، فابتسمت ابتسامة شاحبة، وقالت في مرارة : موظفون  ، أين هم ؟ ! . لقد ذهبوا . فقال لها منفعلا : ذهبوا؟! ، وتركوك غارقة في بحر لجي  . يالا قسوتهم وسوء أخلاقهم !!. فردَت عليه بحسرة : لا تظلمهم . فقال منفعلا : أنا أظلمهم !! أخبريني ما هو العدل ؟! . فقالت بشفقة : منهم من انتقل إلى ربه ، ومنهم من لاذ جبرا بالتقاعد ، ومنهم من نزل إلى الشارع رسولا بين الناس ، حتى صرت صديقة لجدران المكتب ، وما كان يقوم به غيري أقوم أنا به ، فلم يُعَيَنْ أحد منذ فترة ، ولن يُعَين في هذه الظروف  .. لن .. لن.

  ـــــــــــــــــــــــــ : من فضلك اقرأ لي يا أستاذ هذه الكلمة .

  فتعجب الرجل من قولها ؛ فالكلمة ناطقة ، وليس فيها جمود ، فحدق الموظفة ، واخترقت عيناه عدستي نظارتها السميكة، فنظر إلى السماء ، فأسرعت نفسه قائلة له : احمد الله على ما أنت فيه .

ـــــــــــــــــــ : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري ، ياللعجب ، ماذا أرى ؟ ، عينا طائعة لها  ، و أختها عاصية لها !.

فقالت الموظفة له متحسرة – كأنما قد سمعت حوار نفسه معه –  : كان فيها بصيص من النور ، ولكنه انطفأ بلا رجعة بعدما أبى الاستمرار في ظلام العمل ؛ فولَّى هاربا ، ولم يُعقب ، ولكنَّ واهبها وحاجبها منعني ، ثم وهبني أفضل منها ؛ لأرى الدنيا على حقيقتها ، الدنيااااا.

  وكما قال الشاعر :

وإن بُليت بداء

وقيل داء عَيَاءْ

أغمض جفونك تبصر

في الداء كلَّ الدواءْ

 

  فكَّر الرجل فيما قالت ، ووجد نفسه تدفعه دفعا نحو أن يتمتم بكلمتها : الدنياااا . الدنياااا ليت لنا عينا واحدة نبصر بها ما خفي علينا ، ليت لنا …

   وهنا صدم سمعه اتصال من ابنته قائلة له : …… إنها الدنيا .. إنها الدنيا . فقال لها : بإذن الله تعالى لن تذبل الياسمين ،  لن تذبل الياسمين !! .

قصة بقلم /د. مدحت محمد مراد

 

شاهد أيضاً

شامة والجحيم

الى شعيب حليفي “عراف السرد” سيدي عبد الواحد جدي رحمه الله”لوحده كان مدرسة” ********* شامة …