قصة قصيرة

قهوة كاذبة

كنت لوحدي بلا صديق ولا رفيق أرتشف قهوتي الصباحية منذ ساعة، اخترت طاولة منزوية كي أختلي مع هاتفي الخلوي وأبحث وسط صفحات التواصل الاجتماعي عن رفيق افتراضي يؤنسني في وحدتي لبعض الوقت، ولكني ما إن مسكت هاتفي وبدأت في قلب صفحاته حتى مللته كما يمل الصديق المتسلط في الحديث، المعجب بنفسه، الذي لا يكف عن الكلام على مغامراته السخيفة المملة القذرة، كذلك فعل هاتفي حين عرض على شاشته يحتاج إلى تنظيف من الفيروسات ثم أتاني بأمر جديد “نظف هاتفك، فالذاكرة ممتلئة، وبعدها يحتاج برنامج كذا إلى تحديث، إلى هنا ذاق ذرعي منه فرميته جانبا على الطاولة ونزعت نظاراتي لأريح بصري قليلا.

عدت إلى الوحدة والفراغ فما وجدت إلا تفقدت وجوه الزبائن الذين أعرفهم وأولئك الذين لم أرهم بالمقهى إلا مرارا، فأتفحص سيمات وجوههم ربما هناك من أبناء الحي أو من أعرفه مسبقا ولو سطحيا فأجالسه لأقتل هذا الفراغ قبل أن يقتلني، وإذ بي أرى شيخا كبيرا بلباس مختلف عن غيره في المقهى بل والحي كله، وعند اتجاهه نحو المصرف بالقرب مني عرفته، وقلت في نفسي إنه الشيخ “لخضر” صاحب الكرامات وقراءة الفنجان، ذلك الدجال الخبيث، الدرويش المحتال، ربما أقضي معه بعض الوقت، هذا أفضل من الجلوس وحدي مثل يتيم بلا أهل ولا ولي يربيه، أسرعت نحوه فسلمت عليه ودفعت حساب قهوته، ثم عرضت عليه الجلوس معي بنفس الطاولة.

يشتهر “سي لخضر” عن غيره من الدراويش أنه لا يخطئ في قراءة الفنجان ويأتي بما يحمل من أخبار في دقة وبأسلوب سلس ومهذب يبهر به سامعه ويجعله مصدقا لما أتى به من بشائر، لهذا أردت أن أقضي معه بعض الوقت ولو كنت سأستنجد بخبرته في الدجل وعمله هذا المشبوه والمحرم أخلاقيا، مسكني من كتفي ونحن متجهان إلى الطاولة طالبا كأس عصير من النوع الفاخر والحجم الكبير على حسابي لأنه أعلم بغرضي قبل أن أبدأه بالحديث.

يتقدم مباشرة إلى الطاولة ويمسك بفنجان قهوتي، جلست بجانبه متعب من فعله بعد أن خرجت من ذهولي بحديثه وقلت له في لهفة واستغراب معا:

هل ستقرأه؟

إن لم تمانع قراءتي حظك على هذا الفنجان. رد مستهزئا، فصرت مندفعا أكثر لأرى طلعي اليوم مع الشيخ لخضر وأمتحنه بنفسي اليوم، هكذا حدثتني نفسي الامارة بالسوء، وهل هناك سوء وإثم أكثر من مجالسة دجال وخبيث.

ولما لا يا شيخ وأنت ضليع بهذا الأمر وأمهر الناس به.

لأني فقط أعرفك جيدا، وكيف كنت تستهزأ بعملي الفضيل ومكاني الفاضل.

هيا، هيا يا شيخ “لخضر” اقرأ واسمعني من فضلك.

وبدأ الشيخ ينظر ويتفحص الفنجان ويقلبه يمنة ويسرة، ثم أطرق يقول:

لك مستقبل زاهر وبالمال زاخر، ستعيش مترفا ورفها، يأتيك المال من أمامك ومن خلفك وأينما تضع يدك تكون البركة وواسع الرزق، تسكن منزلا رحبا فسيحا من طوابق وحواضر، وتركب أفخم السيارات وأفضل انواعها، وتكسب أغلى المحلات والحوانيت…. وفي هذه اللحظة بالذات تقدم إلينا زبونا لم نعلم منه شيئا إلا وهو عند رأسينا، فقال:

عذر، هذه طاولتي والفنجان الذي بيدك يا شيخ ملكي وهي قهوتي، فطاولة الأستاذ هي تلك ولا زالت القهوة عليها.

هنا أحسست بغضب شديد فاحمر وجهي وارتعدت فرائسي من هذا القول وأنا الذي بالكاد صدق الشيخ وزاد يقيني به وهو يسرد علي تلك الممتلكات والعيشة الرغدة فما أتم كلامه حتى ظهر هذا المختل ليعلن أن القهوة قهوته وأن الطلع طلعه والمستقبل مستقبله، فوقف وصحت عليه في غضب:

وهل تظن بي السوء وأنني أخذت قهوته وطولتك، أنظر جيدا إلى طاولتك ولا تكن مغرورا متسرعا، وفي هذه اللحظة لمحت هاتفي الذي بقي على جنب الطاولة، فهويت على الكرسي ولا أدري كيف ضاع من في برهة ما جاءني في دقائق.

بل أنت المغرور الذي سرق قهوتي واستولى على طاولتي، وهنا كانت ردي مضحكا وهزليا أضحك الشيخ “لخضر” الذي صاح ساخرا:

لماذا يا سيد، لقد سرقت منه مستقبله الجديد الذي طلع عليه من الفنجان، أوتظن أنك ستأخذ منه هذه الأموال الطائلة والمنازل الواسعة والسيارات الفاخرة بمجرد ادعائك أن القهوة قهوتك والفنجان لك ليكون الطلع طلعك والحظ حظك، أنظر ماذا فعلت فقد تبخر كل شيء مرة واحدة. فتوجهت إلى الشيخ وقلت له معاتبا وله موبخا:

كيف لك عمل كل هذا بي يا شيخ، علمت كل هذا من بقايا البن ولم تعلم أن الفنجان ليس لي.

 

شاهد أيضاً

شامة والجحيم

الى شعيب حليفي “عراف السرد” سيدي عبد الواحد جدي رحمه الله”لوحده كان مدرسة” ********* شامة …