قطف الياسمين

قطف الياسمين (قصة قصيرة)

كعادة الأبطال الشجعان، والثوار الأحرار تقتلهم وشاية الأذلاء والمغضوب عليهم، لكن مراد طفل مراهق لم يبلغ الخامسة عشر بعد، فلا يمكن تصور أن الوشاية تدركه ولا أن هناك من يترقب حركاته ونشاطه النضالي، هو الذي يساعد المجاهدين بحب وتفاني على نقل رسائلهم بين بعضهم دون أن يهتم به بوليس المستعمر، ولا الموت الذي يحوم حول أمثاله من المناضلين، يوصل أموال التبرعات من الشعب الذي يودعها إلى أبيه سي عبد القادر، المناضل في صفوف جبهة التحرير، الذي يعمل بدوره في السر، وينقلها إلى سي عمار مسئول المالية بالجبهة لتحول بعد ذلك إلى الجبل.
مع صباح أحد أيام الربيع من سنة 1961، وصل البوليس العسكري الفرنسي أمام منزل سي عبد القادر وأحاطوه من كل جانب، فالأمر خطير والبوليس لا يرحم ولا يسامح، لا يعرف سوى القتل والتعذيب الهمجي الوحشي، خصوصا بعد توتر الوضع ونجاح الثورة بشكل باهر وإلتفاف الشباب حولها، ومع اقتراب الاستقلال وسطوع شمس الحرية بأيادي شباب الوطن، خلق العسكر فوضى وهلعا وسط الحي والجيران، ارتبك الجميع، صغيرا وكبيرا، رجلا وامرأة، دخلوا دورهم وأحكموا غلق أبوابها، فتحوا النوافذ ليلقوا نظرة أخيرة على المجاهد الخطير المطلوب، ظن الجميع أن البوليس ما جاء إلا للقبض على سي عبد القادر، وقد أخرج من داره رفقة زوجته وابنتيه، لم يبق سوى الطفل مراد الذي مكث في حجرته بعد أن سمع الضابط يطلبه شخصيا، جاش صدر أمه واشتد غمُّها وخوفُها، فبدأت بالبكاء والصياح على ابنها الوحيد، قرة عينها وفلذة كبدها، بسمة الدار وبهاؤها وحركتها، عرف الجميع مقصد البوليس، ولا أحد يعرف الجرم الذي ارتكبه الطفل ولا فيما هو متورط، فالجهاد كبير عليه وأترابه لا يفقهون حتى معناه، وإن كان يعمل لصالح الجبهة مثل أبيه، فكيف يكون خطرا على البوليس والجيش الفرنسي، ومن أوشى به يا ترى؟.
كسر باب حجرته بالقوة، ولج الضابط أولا، وإذ به يقف أمام كومة ورق فوق مائدة الأكل والنار تأكلها، ورفع بصره ليرى الفتى علي النافذة كالعصفور يحاول التحليق، ما إن فتح فمه ليوقفه، حتى سمع في لحظتها طلق نار من خارج الدار، كانت الرصاصة الغادرة موجهة لقلب مراد، رصاصة غدر كما غدر به الواشي الذي وثق به، رصاصة الحقد بقدر حقد المعمرين وجيش المستعمر على الشعب الأعزل الذي لا يبغى سوى الحرية،  سقط مراد في وسط الحجرة على الأوراق التي لم تحترق كلها بعد، تقدم الضابط إليه بسرعة، لمسه، حركه، لكن الأوان قد فات والجريمة ارتكبت في حق الطفولة وانتهى، ولن يتوقف القتل والإبادة لأطفال في عمر الزهور، لا في هذا الوطن ولا في غيره، وسيبقى المحتل يغتال الطفولة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هناي، لم يدر الضابط ما يفعله وكيف يتصرف في مثل هذا الموقف الجبان، نظر إلى جثة الطفل الباسم وكأنه راض بقدره مقتنعا بتضحيته من أجل وطنها، هكذا رأي كيف يكون المفدى، ثم إلتفت إلى الجندي البغيض والحقد باد على مسامحه، أراد في نفسه أن يطلق عليه النار من مسدسه، لكنه خاف أن يحاكم بجريمة القتل والخيانة، تراجع وهو يرتعش من الغضب، متحسرا عن موقفه السلبي، شامتا قانون بلده الذي يدين من يقتل أي عربي ولأي سبب، أمر جنده بالانصراف إلى الثكنة، كأن شيئا لم يحصل،
حينها دخلت أمه في لهف على فقيدها باكية عليه، شاكية مصابها إلى الله، والجارات يزغردن على الشهيد البطل.
سليمان عميرات – عنابة- الجزائر

شاهد أيضاً

“إلى أين يأخذنا ليل المدينة؟

أتساءل كثيرًا عن مُخرج هذا الفيلم وهل هو مُمتع لهذا الحد ؟ ،هل يرى العالم …