مشوار حافر

مشوار

بعد اندلاع فتيل الحرب
وقبل وصولها لمدينة تعز
التحقت بالجامعة
تخصص ادارة الاعمال
وماهي الا ايام وشهور
وتسارعت وتيرة الأحداث
واتى “حصار الدحى”

و كشاب مصر ان يتسلح بالقلم
ويكمل تعليمه الجامعي
بعيدا عن ضجيج الحرب ومآلاتها
غادرت المدينة
هاربا
الى مدينة اللواء الأخضر
حاولت جاهدا التسجيل في الجامعة
ولكن العجز قيدني
لنصف ترم درست وتوقفت
فهذه المدينة المترف أهلها
لا اشغال فيها
تساعدني لمواصلة تعليمي
يمتلك غالبية
سكانها
الجنسية الأمريكية
الأموال الغفيرة
الفلل وعربات المرسيدس
الفارهة

بإحباط عارم
أجر هزائمي
اغادر مدينة إب

وفي كل رحلة كنت استقل
صلوات امي بجانب وسائل المواصلات
ودعواتها رفقيا لسفري

بكبرباء
مهزوز وممزق
توجهت صوب صنعاء
وصل الشاب الغريب
العاصمة
في ليلة ماطرة وكئيبة

في باب اليمن
اخذت غرفة
بأحد الفنادق الرديئة
التي تتناسب مع اخر قرشين
في جعبتي

ارتميت على سرير
خشبي
يشكو من وجع
في مفاصله
‏صريره
‏يشبه اصوات جراحي
‏ارتديت لحاف شبه ممزق

وحيد بائس
تنتابني
رغبة جامحة في الجهش
ببكاء
بطول الطريق التي اتيت منها

اربت على قلبي
المرتجف بردا وألاما
بأن الصباح سيحل
وسينجلي كل هذا الحزن
الذي يخنقني بلا رآفة

ثلاث ايام
في نفس النزل
نوم متقطع
قلق متواصل
اتوجس من كل شيء

من “الزباج”
بلهجة صنعانية قارحة
بصخب في الغرفة المجاورة

من صاحب الكافتيريا
الذي يشكو ارتفاع اسعار السلع
في السوق
‏فيصيح بصوت عال يشبه حشرجة الغول
“هذا عمل “البرغلي” طلع مشي من تعز بثورة”
‏اترك الشاي بنصف الكأس
‏كأنه يلقي بتللوم على عاتقي

من سائق الباص
الذي اضاعني بعد ان طلبت منه
ان ينزلني عند بوابة الجامعة
فيصرخ بغجرية
“انت لم تخبرني اي جامعة”
هناك الجامعة القديمة والجديدة في صنعاء

وك شاب ضعيف
في مدينة غريبة
امسك مدامعي بتقهقر واضح جدا

وبتخبط وضياع
ابدي سخطي على كل شيء
لما انا هنا
مالذي سأفعله

بقوة شديدة لا ادري
كيف داهمتني
تماسكت بصعوبة بالغة

وبعد عناء طويل
تمر الأيام واحصل على فرصة عمل في
احد المطاعم “مباشر”
نادل يقدم الطعام
ابتهجت كثيرا
واستعدت جزء من قوتي الخائرة

بكل حب عملت
وبشغف كبير
التحقت بجامعة صنعاء
كلية الإعلام

وفي احد الصباحات
في ساحة الكلية
اسمع صوت شجي ينادي الجميع
يارفيق
شاب لا تكاد تتوقف ضحكاته
اجلس بالقرب منه
وأساله شوقي نعمان
فيجيب بكل حفاوة نعم اهلا يارفيق
اخبره بأننا اصدقاء على “الفيسبوك”

شوقي أصبح لي
صديق
‏وزميل
‏وصديق
‏واكثر من اخ

بجانب شوقي فجاة
تحول ذاك الشاب المتوجس
مليء
بالشقاوة
‏والشغب

ملأنا الجامعة بالصخب
وتسكعنا في كل شارع
ورقصنا على كل رصيف

قبل نهاية الترم الأول
تظهر فجاة
فتاة شعرت بغرابة شديدة نحوها
لا ادري ما ذاك الشعور
لم يكن اعجابا في البداية
الشعور الذي يراودني عند النظر اليها
غريب عن بقية الزميلات

كانت تعمل في احدى
منظمات الاغاثة
في الحديدة
اتت في الامتحانات النهائية

في اخر امتحان للترم الاول
اكملت سريعا
في ممر الطالبات انتظرها
اتجرأ ولا اتحاشى التمعن بها
وبدون مقدمات
تشجعت وحادثتها
عن الإمتحان
اخبرتها بأني زميلها
اتمنى لها التوفيق
التف وامشي

شيء ينمو بداخلي
بعد اسبوع من رؤيتها تتمخطر
في الساحة
كانها فرس عربي اصيل

تعرفنا على بعضنا أكثر
ستة أشهر انقضت
‏ انتهى المستوى الاول
ووسط وضع لا يحتمل شخص حياته فقط
تزوجنا حاربنا معا
الظروف الصعبة
‏صنعنا من المرارت حلاوة
‏انتصرنا لحبنا

اذبنا ثلج الشتاء
‏من على احلامنا
‏ بدفئ محبتنا الصيفية
‏ زرعنا ارواق الربيع بدلا من ورق الخريف المتساقط

هذه القتاة التي احببتها
لم تكن قط مجرد امرٱة بالنسبة لي
كانت اولى عطايا القدر
المباركة والمنصفة
‏والحظ الباسم
‏ في وجه دربي المتعثر
والآمل الحقيقي
الذي جعل طريقي سالكاً وسالما
والنور الواهج الذي بدد غياهب الظلام في أفقي

مرت سنوات
بحلوها ومراراتها
استطيع حصرها في عبارة “سنوات زواج”
فالزواج غالبا لا يكون بالصورة النمطية
‏التي كانو يصيروها لنا الكبار

‏ ارتباطي بها
‏ لم يكن حبر على ورق
‏لم يكن اعتباطيا اطلاقا
‏بقدر ما كانت الأوضاع
‏ نفسها عشوائية بشكل كامل
‏ لكنها كانت الخطوة الأولى
‏ والجريئة نحو حياة جديدة حياة
‏عرفنا من خلالها المعنى الأسمى للحياة.

المشاركة في اتخاذ القرارت السليمة
والمجابهة لكل طارئ
‏ اعباء مضنية
‏مشقات عويصة
‏ لكن بوجود سند حقيقي
‏ عند كل منعطف يلوي بنا
‏تماسكنا كي لا تهوي بنا الرياح العاتية
‏ الٱمال الموحدة
‏الرضا التام
‏ التضحيات المتبادلة
‏ التنازلات الكبيرة
‏العطاء الزاخر
‏ الثقة اللامتناهية
‏ الدعم اللامحدود
‏الروح المتفانية في
‏التعاون من أجل صنع
‏أجمل لحظات العمر
‏ الملاذ الٱمن من مخاوف الحياة وٱرقها
‏ والمواساة العظيمة لكل خذلان
‏ والعوض الكريم لكل الخسائر
‏ومنبع الوفاء الذي لا ينضب
‏ والإخلاص الدائم للحفاظ على هذا الرباط المقدس

ماما زينة والدة زوجتي
هذه المرأة التي جعلت من صنعاء شبه المنزل
فلا مفاتن صنعاء
ولا قصائد المقالح
من خلقوا الرباط الوثيق الذي يشدني لصنعاء
وحدها هذه العظيمة البصراوية
ابنة الحضارات العريقة
‏والعصور التليدة
‏ هذه السنديانة الوارفة التي كانت سندا وسببا في كل ذكرى جميلة
‏نقشتها صنعاء بوجداني


‏ في كل مرة كنت اجدها
‏ في الوقت المناسب
‏الحل الدائم لكل مشكلة
‏عندما كنت وحيدا في صنعاء
‏كانت كل شيء عائلتي ورفاقي
‏وحينما قررت الحياة اسقاطِ خاسرا
‏كانت جيشي وعتادي
‏وعندما اضعت وجهتي
‏ببالغ الحكمة ارشدتني المسار
‏ لا أكاد تخمين شيء
‏ لا تجيده بعناية فائقة
‏ للجرح ضمادة
‏ للحزن سعادة

ممتن لهذا الوجود بشكل مبالغ فيه لأنه وهبني إياها
أمتلك اسباب قِلة
تمنحني البهجة
‏ وتلهمني المثابرة
وهي احد هذه الأسباب الوجيهة
يا بلسما تستطاب به
‏اللحظات والأوقات العصيبة

جنوبا
نخيل إقليم ابو الخصيب
‏ يتجلى في ملامحها
‏تتساقط ثماره رطبًا جنيا كلما ابتسمت
‏البساتين الشاسعة تضاهي
‏ مساحة قلبها الأخضر الواسع

شمالا
حدائق بابل المعلقة
‏ تتجسد بعظمتها
‏الآدب الكوفي
الفن والشناشيل
قصائد المتنبي
وابو العلاء
موال للأعظمي والبياتي
‏ شهامة الطائي
‏ بساطة ومحبة “الجداوي”
‏ كل هذا ترجمة تليق بأوصافها

الحنين الذي يداهمني
عندما اغادر تعز
‏تاركا دموع أمي
‏وذكرى طفولتي
‏هو نفسه الإشتياق الذي يباغتني
‏حينما اغادر صنعاء
‏مفارق ضحكاتك
‏يا أغلى أشيائي واثمنها

كبرت وادركت ان والدي
وحيدا بلا أخ
‏وان لا امتلك عما

لكن وهبني الوجود العم والسند
الشخص الوحيد الذي
كلمها هزمتني الظروف والاوجاع
كان الطبيب المداوي
والمعلم بالنصح والإتكاء

كنت وحيدا وغريب
وقف بجانبي
اضاء لي عتمة الدرب في صنعاء
ساندني لآخر خطوة في المشوار
الجامعي
العم العزيز انور القاضي

لا يأس مع الحياة
ولا حياة بدون اصدقاء
‏هذا إعتقادي
‏لأني لدي جبل من الاصدقاء
‏ ك طه العزعزي
‏و صابر الجرادي وغيرهم

‏الأصدقاء بمثابة مواساة كبرى في وجه
‏كل الهزائم

الحياة قيمتها الحقيقية تكمن في كون الإنسان
بسيط ومسالم هذا من تعلمته من صديقي
اوراس الإرياني تعملت منه

ان الحياة تكون اكثر تعاسة عندما لا نمارس
حريتنا على الاقل
في التعبير عن السوء الحاصل
يرتاح المرء بذلك
ويخفف قليل من احمال القهر والآسى

تعلمت ايضا من صديقي الصحفي
يونس عبد السلام
كيف تماسك في عز انهزامه
يونس الذي ابتلعه السجن
في بطنه
واعتقله وكبله بالأصفاد الصدئة
‏وألجمه باللثام الأسود في صنعاء
شيء لا يحتمله انسان عادي

شخصيا امتلك الرهاب من السجون
فوبيا من رعب هذه الأماكن
لو مررت بتجربة يونس
لكنت خرجت عن طوري
‏ ك انسان سيبقى حاملا صوابه بعد هذه العذابات
‏بعد النوم خلف الزنازين وبين
‏يدي انجس الخلق
‏خىج يونس يزأر بملى صوته
‏نقي السريرة لم يلطخه هرائهم

‏ايقنت من قصة يونس والصحفية الأمريكية
‏”ماري كولفن”
‏ ان الصحافة لعنة
‏ تتقن إصابة الأشاوس فقط

كذلك العم طه الجند
شخص ملهم ودود محب لكل شيء
من روايعه ديوان “جهات المحبين”

شاعر يشبه هذه البلاد
في الريف صباحا
يتصاعد الدخان
هكذا بسلاسة عالية
كأنه روح العم طه
فهو يمتلك خفة أدبية
تلامس اغوار نفوس الدراويش
ففي رائعة “دخان القرى” كأنه بيد فلاح
جمع احجار الدار
وخبز المداخن
‏ وجهيش الحقول
‏وحوَِية المشاقر
‏وظِلال السحاب
‏ووضعهم في كتاب

الأستاذ أحمد عبدالرحمن
الصديق
والرفيق
‏ والمعلم
‏العزيز سامي القرشي
‏ابو محمود
‏وابو قلب طيب

يتعافى المرء كلما اصابته الحياة
اذا امتلك اصدقاء ك انتم

تعلمت صنع امتع اللحظات
من صديقي محمد الصلوي
الرقص حياة
كم رقصنا وابتهجنا
وخلقنا اجواء
لا مثيل لها

‏نحن شعب
‏ إغتيلت حياته
وابتلي بقبح واقع مرير
‏ إغترف من الشقاء
‏اقدار هائلة
‏ومن الراحة قسط صغير جدا
‏وعلى كل الأحوال لا ينتهي شيء
‏ما يزال يقف وينهض من جديد
‏ يمسك بقنديل صغير من الأمل الضائع

هكذا كنا وسنبقى
ناس
قليلة الجاه
بسيطة الالقاب والزهد

والآن وبعد ست سنوات قضيتها في صنعاء
وعشتها بحلوها ومرها
اغادرها بقلب خفاق
وجسد يبحث
عن ملاذ ومأوي جديد
يكفل العيش بكرامة

شاهد أيضاً

“إلى أين يأخذنا ليل المدينة؟

أتساءل كثيرًا عن مُخرج هذا الفيلم وهل هو مُمتع لهذا الحد ؟ ،هل يرى العالم …