كانت أساليب المستعمر مختلفة و متنوعة تبعا لمعطيات و تكتيكات معينة, و كذلك تجارب المجاهد الكبير احمد بن سي عمر كانت مريرة و قاسية مع مراوغاته و مكره, هذا المجاهد وصفه أستاذ جامعة الجلفة الدكتور المسعود بن سالم بالآتي:
” المرحوم سي أحمد بن فتاشة (1927-2021) هو سليل عائلة معروفة بالعلم والكفاح والدفاع عن الهوية العربية الإسلامية ضد المحتل الفرنسي سواء في ميادين القضاء أو التعليم القرآني أو توثيق تاريخ ذاكرة ونسب المنطقة. ”
فالمستعمر كان يتحين الفرص للضرب بقوة و الضرب في العمق, بحيث جُل المداهمات و المكائد و كذا الكمائن لم تكن خبط عشواء بل كانت مدروسة و بإيعاز من أذنابه أحيانا, و في كل مرة تنتصر إرادة الحق على جبروت الباطل رغم المعاناة التي كابدها و لحقت بمقربيه و أقربائه.
كانت عائلة آل بن فتاشة دائما مستهدفة لتاريخها و هم المعروفين بمكانتهم كبناة لقرية مسعد إحدى أقدم الحواضر التاريخية بالجزائر, و كذلك لنضال شخصياتها كحماة دين, و كانت دوما شخصياتها في الصفوف الأولى لما ينادي صوت الحق و داع الواجب الوطني, فقاضي القضاة سي محمد بن فتاشة المتوفي سنة 1891 مواقفه الرجولية المشهودة و العديدة ضد المستعمر في الدفاع عن الدين و خاصة في بناء صرح جامع (الصفاح) بالاغواط وقد كان نائبا لمجلس القضاء هناك لما يزيد عن العشر سنوات ثم رئيسا له لأكثر من تسع سنوات, إضافة الى القاضي كان نجله الفقيه الشهيد سي علي خريج مدرسة إطارات القضاء و الإدارة نالت منه يد الغدر و مات مسموما ساجدا بغرداية سنة 1907, فكانت الملاحقات و الإستفزازات في كل الأوقات و دون سابق إنذار و التي يصعب معها أخذ الحيطة, لأنها قد تكون في أي مكان و أي زمان و عبر الأجيال.
الحادثة التي سأتناولها سمعتها من الوالد المرحوم أحمد بن سي عمر شخصيا و هو المولود في فاتح ابريل من سنة 1927 و كذلك رواها عدة أطراف و خاصة جدي سي عمر و حرمه السيدة (اجديلة) و كذلك ابن الجارة (اللاعج)؛ ففي أواخر أيام شتاء 1961 كانت صاحبة الرؤيا العجوز (اللاعج بنت الفريد) نائمة في خيمتها في ليلة شديدة الظلام, ذات سحب سوداء و برد صحراوي قارس راودها كابوسا مخيفا أضجع نومها حيث رأت أن أحمد بن سي عمر كان يمر بمحنة كبيرة و كان وحيدا يصارع بكل قوة بعد هجوم بعض الوحوش عليه في مكان خال في ليلة شديدة الظلمة جوها ماطر؛ كان كابوسا مريعا للسيدة و هي تبعد مئات الكيلومترات عن مكان تواجد احمد بن سي عمر, و لكنها كانت تلك صورة واقعية لما مر به ليلتها و هو في زيارة للجيش حاملا المؤونة و البريد.
هرعت إليها مرعوبة من هول ما رأت في الصباح اليوم التالي, و لما سمعت حرم الكاتب سي عمر (1903-1972) السيدة اجديلة رؤيا جارتها عادت بها الذاكرة إلى ذات سنة 1958 لما اختطف زوجها من قبل زبانية ( بلونيس) و اقتيد إلى غابة ( تقرسان) أين تم تقييده بجانب بغل ( السانية) لينال صنوف العذاب بالركل من الحيوان و كذلك بذيئ الخطاب من مختطفيه, سي عمر القرآني المعروف بعلاقاته لاسيما بكبار مجاهدي الولاية السادسة التاريخية خلال لقائهم بالزاوية المختارية كدارس و زائر, و منها تم تعيينه رئيس لجنة لتكوين و تنظيم المجالس بمنطقة تمركز عشيرته من قبل أحد مساعدي الشهيد الرمز زيان عاشور و كان المجاهد حاج سليمان غزال حوالي سنة 1955.
لما قارب الاجتماع على الانتهاء, سلم احمد بن سي عمر ما بعهدته من وثائق إلى القائد المسؤول و استلم و ثائق أخرى, و لكن لما همّ بالمغادرة و إذا بوابل من الرصاص ينطلق نحو منطقة اللقاء, لقد وقع الإشتباك و أمر الضابط المسؤول المجموعة بالتفرق حول المكان و مراوغة العدو بإطلاق الرصاص في اتجاهات مختلقة بالقدر اليسير جدا ثم الإنسحاب بعد أن إتفقوا على نقطة اللقاء و كان مكانها ( وادي الفج ), و كذلك أمر أحمد بن سي عمر بالإنطلاق إلى حيث مركز تجميع المؤونة بمنطقة لتسليم البريد إلى صهره و مساعدته على ترحيل خيمته لكي لا ينكشف موقعها و يداهمها العدو إذا وقع تمشيط للمنطقة في الغد, حارس المركز رضخ للأوامر رغم بعض التلكع كون زوجته فاطمة بنت سي عمر كانت حديثة الولادة (نافس) بإبنتها الوحيدة (قديرة) و لا تقوى على السير مسافة طويلة, و في هذا شأن كتب صحفي التلفزيون الجزائري الحكومي الاستاذ طاهر حليس عن دور احمد بن سي عمر في انشاء مراكز التموين و ذلك في وجود الشهيد موسى معروف أي قبل 1958:
” … المراكز لعدة أسباب أهمها استراتجية المنطقة وتضاريسها من جهة، ومن جهة ثانية سكان هذه المنطقة تميزوا بالسرية ودعمهم للثورة ولذلك كانت المنطقة مهمة لدى قادة الناحية“. كما يؤكد المجاهد أحمد بن فتاشة أن المنطقة شهدت العديد من الكمائن ومعركة واد الدوم شاهدة على ذلك في 03 مارس 1961.“
ما إن خطى أحمد بن سي عمر مغادرا حتى ضرب البرق و بدأت زخات المطر بالنزول بالوادي, أسرع الخطى لما وميض البرق الثاني كشف له سيارة العدو فغَير إتجاه مسيره؛ فكر في الرجوع إلى المجموعة لكن البريد لا يحتمل التأخير, و لا الأوامر قابلة للتسويف؛ ما إن إبتعد بخطوات إذا بصوت خائن (الڤومي) من أذناب المستعمر معروف يتوعده:
– ” يا ابن اعمير..ما عندك وين تروح…سلم روحك و هات لعندك…”
شعر بإصابته برصاصة على مستوى مؤخرة عضلة الساق و لحسن حضه إستقرت في العضلة و لم تلمس العظم؛ شعر بآلام شديدة و حارة؛ إختبأ وراء شجرة (السدر) و أخذ قطعة من عمامته ( لحفاية), أحكم بها العضلة من الأعلى بكل قوة لإيقاف نزيف الدم؛ و في هذه اللحظة, إعتراه خوف شديد على ما يحمل من وثائق, و قد إشتد المطر في الهطول فدخل وسط غابة السدر الصغيرة (الضاية), إستل مسدسه و إنطلق يختبئ وراء الأشجار بسرعة كبيرة و الأشواك تأكل من ثوبه و لحمه.
وميض البرق ساعده على تحديد موقع متتبعيه فنزع عنه الجلابة (القشابية) ووضعها على سدرة لتظليلهم ثم صوب نحو الجنود طلقات مركزة من مسدسه مرددا صراخا عال للتمويه ثم غيّر الإتجاه و إنطلق بأقصى سرعة؛ و إذا بالعسكر يطلقون على منطقة الرداء وابلا من الرصاص مرة و لتهتز المنطقة مرة أخرى على دوي قنبلة يدوية, كانت المسافة طويلة و بعد إبتعاده من (الضاية) أدرك بأنه أخيرا تفادى الوقوع بأيديهم و أنه أصبح الآن في أمان.
بعد تلك المعاناة؛ من خوف على البريد و الإعتقال و آلام الجرح, وصل أخيرًا إلى خيمة صهره و أمر أهلها بإطفاء النار لأن ضوءها يجذب الأنظار و طالبهم الإسراع بالرحيل في هدوء و صمت لأن الدورية (الكونفه) ستأتيهم و ينكشف أمرهم و لا أحد يعلم ماذا سيكون مصيرهم, فسارعوا إلى تضميد جراحه بإجتهاد المعوز و إستطاع حارس المركز بحذاقته المعهودة قلع الرصاصة بواسطة خنجر بمهارة و بقليل الألم, بعد أن أعطوه ملابس في ذلك الثلث الأخير من الليل, افترقوا و إنطلق اهل المركز ليدركهم بزوغ فجر اليوم التالي بعيدين بمسافة كبيرة جدًا لكن ما هي إلا لحظات بعد إرتفاع الشمس مقدارا حتى مرت قافلة العدو عن بعد, و في نفس ذلك الوقت من النهار كان أحمد بن سي عمر في منطقة (حمزة) مع أهله و قد حكت له الأم رؤيا جارتها فقال لها:
– ” ذلك ما حدث و الحمد لله ربي نجانا؛ و إن شاء الله المجموعة تكون كذلك…”
أيام بعد ذلك و من مصدر لا يرقى إليه الشك حُكي له بأن ما حدث في تلك الليلة كان كمينا لإختطافه بعد أن تتبعه بعض العيون.
المجاهد المرحوم أحمد بن سي عمر كان شديد التكتم في الحديث عن نفسه و غالبا ما كان يروي أحداثا إلا إذا سئل عنها تحديدا, فهذه الحادثة رواها بعد حادث سير وقع له خارج مدينة مسعد في التسعينيات و عندما الحينا عليه و قد رأينا أثر فجوة صغيرة في ساقه الأيمن بسبب تلقيه لرصاصة, فاسترسل في رواية الحادثة بحضور مجموع العائلة و كان منهم معلم القرآن سي عبد القادر بن فتاشة.
—————————————————————————————————————————-
المصادر:
- أرشيف العائلة
- و مضات من تاريخ القرارة : الثقافي – السياسي – الثوري خلال الفترة 1900 – 1962 تأليف الأستاذ الفاضل : حماني أحمد التجاني المزوزي. دار صبحي للطباعة و النشر,2013
- تسجيلات صوتية للمجاهد احمد بن سي عمر بن فتاشة
- https://www.djelfainfo.dz/ar/homme_histoire/12905.html
5- معركة جبل بوكحيل بقيادة العقيد محمد شعباني.