النقد والإبداع بين الواجب والواقع.. استطلاع

النقد والإبداع بين الواجب والواقع.. استطلاع

أجرى الاستطلاع د. مختار محرم

النقد والإبداع علاقة مترابطة ومتوازنة، فلا يمكن فهم الإبداع دون النقد ولا النقد يمكن أن يتطور دون تطور الإبداع.
فالإبداع، سواء كان في مجال الفن أو الأدب أو العلوم، يتطلب وجود النقد والتحليل، حيث يتم تقييم العمل الإبداعي بما يتناسب مع معايير الجودة العالمية وتوجهات الجمهور.
يمثل النقد والإبداع وجهين لمادة واحدة. الإبداع يحتاج إلى النقد للوصول إلى مستوى الجودة العالية، وبدوره يوفر النقد أفضل الافتراضات للاستفادة القصوى من الإبداع. وهذه العلاقة المتكاملة بين النقد والإبداع يمكن أن تفضي إلى إنشاء أعمال جديدة مذهلة يتميز بها المجتمع ككل.

على ضوء ذلك توجهنا لعدد من الكتاب والنقاد بالسؤال التالي:
من وجهة نظركم هل يقوم الناقد بما عليه في خدمة الفن والأدب لتطوير المجتمع والارتقاء بمستوى إبداع أعضائه؟
في المقابل هل يستفيد المبدع العربي من المادة النقدية للارتقاء بمستوى إبداعه وتطوير تجربته سواء الأدبية أو الفنية؟
وجاءتنا المداخلات كما يلي..

نستطيع القول إن ثمة حراك ملحوظ في النشر الإبداعي التأليفي والإبداع النقدي خارج المؤسسات الرسمية
أ. د. أحمد علي الهمداني / باحث ومؤرخ وناقد يمني

ثمة اتهامات متبادلة قارة بين الناقد والمبدع منذ زمن طويل في الحركة الأدبية العربية. يتهم المبدع الناقد بعدم الكفاءة والقدرة على استيعاب حركة الإبداع المختلفة الاتجاهات ويؤكد على عجز الناقد عن المتابعة الدقيقة والمستمرة لحركة الإنتاج الإبداعي المتعددة الميول والمتلونة الحركات. وفي المقابل يتهم الناقد المبدع بضآلة ما ينتج وفقر ما يقدمه من أعمال صالحة للنقد والتحليل.
غير أن هذه العلاقة من عدم الثقة المتبادلة غير منصفة، فلا الناقد منصف ولا المبدع على حق فيما يقول. في الحقيقية ثمة أعمال إبداعبة راقية وثمة مؤلفات نقدية متمايزة ومتميزة منتشرة على الساحة الأدبية العربية واليمنية.
وعلى الرغم من الحرب الظالمة في اليمن فإننا نستطيع القول إن ثمة حراك ملحوظ في النشر الإبداعي التأليفي والإبداع النقدي خارج المؤسسات الرسمية وأجهزة الدولة التي انشغلت بجمع المال الحرام والحلال.
ومما لاشك فيه أن تطورا بينا وملحوظا قد طرأ على الإنتاج الإبداعي والنقدي في اليمن في صنعاء وعدن يسهم بعض العمل النقدي والإبداعي في هذا التطور ورسم معالم التقدم اللاحق.
وكل ذلك لا ينفي أن هناك بعض الضعف في الإنتاج الإبداعي الأدبي وفي الدراسات النقدية والأبحاث العملية العلمية القائمة على المفاهيم النظرية الشاملة مقارنة بالدول الأخرى.
ذلك أن النقد الأدبي والإبداع الأدبي يرتبطان ارتباطا عميقا بمجموعة من الفنون والعلوم الأخرى أهمها تاريخ الأدب والنظرية الأدبية وعلم الفن. وهذه الأخيرة تطورت كثيرا خارج حدود اليمن وخارج حدود الوطن العربي.
يتأثر الأدب اليمني والنقد اليمني الحديث والمعاصر بكل هذه يساعده على التطور وقد يحرفه عن الطريق الذي بدأه. وهنا يأتي دور النقد في التقويم والتحليل ومحاولة إصلاح الخلل والخطل. لكن يبدو التأثير الخارجي أقوى فوصل الأمر إلى إن ينشر بعض الكتاب أو أغلب الكتاب خمسة عشر صفحة أو عشرين تحت مسمى رواية وينشر عملا مكسرا تحت مسمى شعر. ويطبل المطبلون و(يبترعون )ويشيدون جهلا وبهتانا. ويعجز النقد الحقيقي عن الظهور في هذا الغثاء الكاسح الكاسح.
ختاما؛ لست من دعاة التثبيط والإحباط. ثمة تطور حصل ويحصل في الأدب اليمني المعاصر والحديث. ثمة أصوات مبدعة جدا في الشعر والرواية إناثا وذكورا وفي الفن التشكيلي وفي أشياء أخرى.أدبنا اليمني يتقدم رغم الحرب والقهر. ورغم انغلاق الأفق وانسداد الرؤية وتعكر المزاج واغتراب الرؤيا أحيانا.
ومن المهم الإشارة إلى أن الذين يقولون بعدم مقدرة النقد على متابعة النشر الإبداعي الأدبي لا يلتفتون إلى الحراك الثقافي النقدي والدراسات والبحوث التي تقدم وتعتمل في الجامعات اليمنية. في الحقيقة ثمة العشرات بل المئات من الرسائل العلمية والأطروحات التي قدمت للمناقشات ونالت الماجستير والدكتوراه.وهي تدرس وتبحث في الأدب اليمني قديمه وحديثه.وكثير من هذه الأعمال موفق في بحثه ودراسته.

الحقيقة والمنطق يقولان بأقدميّة الإبداع وما النقد إلا تابع له
علي الأمير / شاعر وقاص وناقد سعودي

السؤالان كلاهما, ومن الوهلة الأولى, يشعران القارئ بأنّ النقد مقدَّم على الإبداع ومهيمنٌ عليه, بينما الحقيقة والمنطق يقولان بأقدميّة الإبداع وما النقد إلا تابع له, لولا الإبداع ما وجد النقد. غير أنّ النقد على المستوى التنظيري قد تطوّر حتى كاد يصبح فنًا مستقلًا بذاته, تسير مناهجه النقدية بموازاة المدارس الأدبية, بل باتت نظرياته تجنح نحو الفلسفة والعلمية على حساب أدبيّة الأدب, وصولًا إلى النقد الثقافي.
في ضوء ما تقدم, نجد أن إجابتنا على السؤال القائل: هل يقوم الناقد بما عليه في خدمة الفن والأدب لتطوير المجتمع والارتقاء بمستوى إبداع أعضائه؟ ستكون إجابة نسبية غير محسومة وذات بُعدين, أولهما نعم يقوم الناقد بما عليه وِفقًا لما يراه هو وهذا ما يفسّر بقاءه واستمراره. وثانيهما وهو الارتقاء بمستوى الإبداع, لا أعتقد أنّ المبدع لحظة انخراطه في عملية الخلق الإبداعي معنيّ بأيّ من تنظيرات الناقد ونظريات النقد, وبالتالي لا تأثير لها عليه.
ربّما بعد خروج النص أو العمل الإبداعي, إذا حظي بالتفاتة من الناقد, سيكون ذلك محفّزًا نفسيًّا للمبدع لكي يستمر أمّا التطوّر فمرده للمبدع نفسه وفق موهبته وسعة اطلاعه وقراءاته في كل شيء عدا النقد, لأنه كلما استحضر النقد وتغيّاه لن يُبدع. وعليه, ومن وجهة نظري, كلا لن يستفيد المبدع العربي من المادة النقدية للارتقاء بمستوى إبداعه وتطوير تجربته سواء الأدبية أو الفنيّة.

 

المبدع طرف هام في العمليّة الإبداعيّة باعتباره الفاعل والمنجز للعمل الإبداعي ويمثّل الناقد الطرف المحاور
خيرة مباركي / شاعرة وناقدة تونسية

اتجهت الدراسات الحديثة إلى مزيد الاهتمام بالظاهرة الأدبيّة، ليس فعلا إبداعياًّ فحسب، بل محاورة هذا الفعل والوقوف عند مظاهر الإنشاء فيه. ولعلّنا أمام مجال نظر في الدرس الأدبي الحديث، صار موجّها إلى القراءة والتلقّي بما هو إبداع على الإبداع، وفعل اتصال، لوصل العلامة اللغويّة بالعلامة الثقافيّة. والتقاط الأصوات الغائبة التي تسري بين أعطاف الخطاب: صوت المجتمع وصوت التاريخ، وهي مهمّة الناقد. فهو الواصل بين البنى الفنيّة والعلامات اللغويّة من جهة وبين خرائط المعنى من جهة ثانية. وهكذا تكون قيمة النقد والناقد. فهو على هذا الأساس يخدم الفن والأدب لأنّ الناقد قارئ مختلف والقراءة حمّالة أوجه. فهي ترصد ثقافة المبدع وتستكنه ما ترسّب في لا وعيه من نصوص مهاجرة، تغادر زمنيّتها نحو زمن الكتابة. فالناقد العارف قادر على الغوص في عمق النص، يستجلي رموزه ومظاهر الإيحاء فيه. وهذا في حدّ ذاته إضافة، يجعل فعل القراءة فعل مساءلة وإنتاج لدلالات جديدة من أفكار ومعان وصور جماليّة موحية.
وقد تختلف القراءة النقديّة باختلاف زوايا النظر وزمنيّتها، حينئذ يكون التواصل بين الناقد والعمل المبدَع وفق رؤية مخصوصة وطبيعة الواقع الذي يحتضنه. وكذلك بما يحمله من تذوّق للمادة المنقودة وأدوات عصره المفهوميّة. هذا فضلا عمّا يبعثه هذا العمل في النفس من تأثيرات وانفعالات. قد يكون ذلك على سبيل الارتباط بذائقة ذاتيّة، وقد يتجاوزها إلى رؤى علميّة مضبوطة. ولكن وظيفة النقد الأدبي والفني تتجاوز ما ينطوي عليه العمل من جماليات إلى خلق ذوق أدبي وفتح آفاق جماليات ناشئة بالتقاط الأسباب الحقيقيّة وراء جماليات العمل الإبداعي. بهذا يتحوّل الناقد إلى مؤسّس لتقاليد جديدة هي الوجه الآخر للنص وهو ينفتح على أبعاد أرحب، تكون الفائدة فيها للمبدع والمجتمع على السواء. بهذا فالناقد ليس مجرد قارئ أو منتقد للعمل وإنّما هو حلقة هامة من حلقات الإبداع. لا يمكن أن تتحقّق رسالته إلاّ إذا اكتملت هذه الحلقات، فالعمل الأدبي أو الفني فعل لا يزال بصدد التشكّل، وصيرورة لا تكتمل حلقاتها. تغدو بذلك القراءة النقديّة الواعية تقديرا للقيمة التعليميّة للعمل الإبداعي وتطويرا له.
يمكن أن يستفيد المبدع العربي من المادة النقديّة للارتقاء بمستوى إبداعه وتطوير تجربته الأدبيّة أو الفنيّة. فالمبدع طرف هام في العمليّة الإبداعيّة باعتباره الفاعل والمنجز للعمل الإبداعي. وفي المقابل يمثّل الناقد الطرف المحاور. قد يكون المبدع هو الناقد الأول لعمله، والمتلقّي هو الناقد الآخر، وطبعا نخص القارئ الذي يمتلك أدواته فتميّزه عن القارئ العادي. بهذا ففي كلتا الحالتين تحصل الإفادة من المادة النقديّة. ففي المستوى الجمالي، وهو يحظى بأولويّة خاصّة بما يضطلع به من وظائف اجتماعيّة، يمكن تطوير المواصفات التي تميّز العمل الأدبي والفني، وذلك بمقارنته بأعمال أخرى سواء تعلّق الأمر بإبداع الفنان أو الأديب صاحب العمل أو من عاصروه أو سبقوه. لأنّ الفن أو الأدب تجربة ذاتيّة ومجموع هذه التجارب تشكّل تاريخ المرحلة الإبداعيّة وتطوّرها الابيستيمي. وعلى هذا الأساس يمكن تطوير التجربة الأدبيّة أو الفنيّة. كما يمكن أن تحصل الإفادة في المستويين الشكلي والتعبيري وخاصّة في المجال الأدبيّ، فيكون خالقا للغة جديدة قد تكون الأقدر على مواجهة تطور الواقع واستيعاب قضاياه المعقّدة.

 

نحن نعيش حالة من الردة الإبداعية
محمد بكر البوجي / أديب وناقد فلسطيني – رئيس جمعية النقاد الفلسطينيي
يحاول الناقد إرسال رسالته الفكرية والفنية الى الأدباء عبر مقالاته وندواته محاولا تحريك المشهد الإبداعي نحو التطور الطبعي للأشكال الفنية متجاوزا ما أنجزه الآباء في القرن الماضي. وتطوير الأدوات الفنية حسب تطورات المرحلة..الكلمة اليوم ليست هي الكلمة قبل ثلاثين عاما. والمتلقي ليس هو المتلقي. هنا مطلوب من المبدع تطوير الأدوات الفنية سواء اللغة أو الصورة أو الإيقاع. الدهشة الآن هي اساس العمل الفني. لأن المتلقي اليوم يمتلك احساسا بليدا نوعا ما بسبب التطور التقني المذهل.. يحاول الناقد التغيير نحو العصرنة في كل الفنون.

المبدع قد يستجيب وقد لا يلتفت الى أراء النقاد. إما لأنه لا يستطيع تطوير أدواته وأفكاره أو أنه مشغول بأعمال أخرى والإبداع لديه هامشي لا يجلب له سوى القلق. والبعض يستجيب لرؤية النقاد محاولا التغيير والتطوير. داعما نفسه بالمزيد من القراءة والوعي الحداثي استجابة لمتطلبات المرحلة وطبيعة المتلقي اليوم.
لكن ما نراه في الواقع أن المتفاعلين مع الفكر النقدي هم أقلية وقد يكون لهم أثر واضح في حلحلة المشهد الإبداعي الجديد نحو أشكال فنية جديدة.
ما حدث خلال الثلاثين عاما الماضية كان كارثة على الحركة الإبداعية. لقد انتشرت الاتجاهات الإسلامية – لسنا هنا في محال تحليل الدوافع والاسباب والنتائج – ما يهمني أن الكثير منهم حشر نفسه ضمن الإبداع الأدبي وأخضع إنتاجه للفكر الديني. أنتج هذا قضايا ميته حول قصيدة النثر والتفعيلة والشعر العمودي. قلت هذا كثيرا في ندواتي بالقاهرة. نحن نعيش حالة من الردة الإبداعية. نحن عاجزون عن تطوير ما أنتجه أسلافنا في منتصف القرن العشرين. نحن نرتد إلى عصر المماليك والصنعة اللغوية الشعرية دون محتوى.

 

في الثمانينيات والتسعينيات كنا نعيش طفرة نقدية أربكت المشهد وخرجت عن سياق التقويم
عادل الأحمدي / شاعر وناقد وباحث يمني

نعيش طفرة أدبية تحتاج لما يوازيها من النقد المسؤول المستوفي أدوات النقد من ثقافة واحاطة وأسلوب وحنان.
النقد ليس تشهيرا بل تقويم وتحفيز..
يكتب المبدعون كلاما كثيرا منه الجيد ومنه الممتاز ومنه الضعيف ووظيفة الناقد هي تبصير المبدع بنقاط قوته ليتمسك بها ويمضي على منوالها، وتبصيره بمواطن الضعف كي يتحاشاها.
أظن أننا في الثمانينات والتسعينات كنا نعيش طفرة نقدية أربكت المشهد وخرجت عن سياق التقويم وبدا أن كثيرا من الإنتاج النقدي مجاملات تعتمد على المصالح والصداقات، وبعضه انحرف لكي يقيد الإبداع موغلاً في التركيز على عوالم التجديد الثوري في معمار القصيدة بدون محصول يذكر في جانب تجديد المعاني.
نعيش اليوم طفرة إبداعية كما أسلفت، ومطلوب أن يواكبها أداء نقدي مسؤول يعيد للنقد مكانته في تحريك دولاب العمل الإبداعي ويضمن اطراد التجديد في القصيدة العربية وعدم انحدار المبدعين إلى مهاوي التجارب العادية.

 

افتقاد البوصلة..
ياسين البكالي / شاعر يمني

الناقد العربي إلى الآن ما زال يفتقد البوصلة النقدية بوصفها المرآة العاكسة لكل جوانب الثقافة ومضامينها
ربما لغياب المدارس النقدية وعدم اهتمام الاكاديميات بها كثيرا ولذلك تفتقد إلى المعايير والمحكات الموضوعية للنقد
وظهر النقد في مجلاتنا العربية بمستوى قليل لا يرقى لحجم الإنتاج الثقافي هذا إذا لم تغلب على الكثير منها الذاتية والعلاقات البينية بين المثقف شاعرا أو روائيا أو فنانا تشكيلياً أو غيرها وبين الناقد
وتظهر أحيانا الخصوصية التي تنأى بالنقد وتبعده عن أهدافه القصوى.

 

شاهد أيضاً

شعر الوداد وشعر الغزل

شعر الوداد وشعر الغزل الطبيب نوري سراج الوائلي نيويورك   الشعرُ قلبُ اللغةِ، تقوده ويقودها، …