“خواطر سعيد يعقوب النثرية” / جمع وتقديم : صالح عبده إسماعيل الآنسي

لكثير من الشعراء الكبار الذين يستخدمون موقع التواصل الاجتماعي الاشهر والاوسع ارتياداً – الفيس بوك- في نشر نتاجهم الأدبي..الكثير من الخواطر النثرية الرائعة والمفيدة التي يعبرون فيها عن آرائهم الأدبية ، وبعض وجهات نظرهم النقدية ، وهي تشكل بمجموعها خلاصة هامة لنضج تجاربهم ، وفوائد لا غنى لنا عنها ، نحتاج للاطلاع عليها ، والاستزادة من معين خبراتهم وطول وثراء تمرسهم ، ومن هذا المنطلق عقدت العزم على جمع تلك الخواطر لكلٍ منهم على حدة ، ليسهل على الكثير منا الاطلاع عليها والافادة منها ، وفي هذا المنشور استعرض معكم جملة من خواطر شيخ الشعراء/

سعيد يعقوب

أمد الله لنا في عمره وعطائه ، التي اخترتها وجمعتها من يومياته ، وهو شاعر عربي أردني كبير ، غني عن التعريف ، غزير الإنتاج ، حاضر البديهة والشاعرية في الارتجال ، شهير..نحرير ، لا يشق له في مضمار الشعر العمودي غبار ، وليس أدل على ذلك من ارتجاله كتابة قصائده على صفحة يومياته بالفيس بشكل فوري ومباشر ، وهو ما لا يستطيع أن يفعله غيره ، وشعره يسلب الألباب بسحر بيانه وقمة بلاغته وأصالته النادرة ، وقد قيل عن مدى حضور شاعريته وقوة تمكنه أنه لو أراد أن يكون كل كلامه شعراً..لفعل ، وأرى أن من لم يقرأ شعره حتى الآن..فقد فاته خير كثير ، وحرم نفسه من متعة تذوق النكهة الحقيقية للشعر العربي الأصيل المعاصر ، إذ أنه-وحده-نسيج أدبي متفرد ، ولا يوجد من يشابهه بين كبار شعرائنا المعاصرين في توظيف المفردة العربية الأصيلة السلسة القريبة من الفهم ، التي تجعلك تشعر بحقيقة جمال وثراء لغة الضاد ، التي أعاد لها بشعره رونقها ، وجدد لها حُلَّتها البهية ، التي كانت قد أوشكت أن تبلى وأن تخلق ، وخواطره النثرية-على صفحة يومياته – لا تقل قيمة فنية جوهرية ونقدية عن شعره ، وفي اعتقادي أن دافعه لكتابتها بين الحين والآخر هو إفادة الغير ، كما هي عادة فعل غيره من كبار الشعراء ، ولإتمام أمر الاستفادة منها حرصت على ترتيبها وتنسيقها-لي وللقارئ الكريم-كما يلي :

1- استبصار :

هناك كوكبة من الشعراء حباها الله القدرة على الاستبصار واستشراف المستقبل وأضرب ثلاثة أمثلة على ذلك الأول الشاعر الكبير إبراهيم طوقان 1905/1941م :

أمامَكَ أيُّها العربِيُّ يومٌ
تَشِيبُ لهَوْلِهِ سُودُ النَّوَاصِي

مَنَاهِجُ لِلْإِبَادَةِ وَاضِحَاتٌ
وَبِالحُسْنَى تُنَفَّذُ وَالرَّصَاصِ

وهذا ما حدث سنة النكبة 1948م ، والثاني لتلميذه الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود1913/1948م مخاطبا الأمير-الملك فيما بعد-سعود بن عبد العزيز آل سعود 1902/1969 م الذي زار المسجد الأقصى
وقد مر ببلدة الشاعر (عَنَبْتَا) عام 1935م :

يا ذا الأمِيرُ أمامَ عَيْنِكَ شَاعِرٌ
ضُمَّتْ عَلَى الشَّكْوَى المَرِيرَةِ أَضْلُعُهْ

المسجدُ الأقْصى أجئْتَ تزورُهُ
أمْ جِئْتَ مِنْ قَبْلِ الضَّياعِ تُودِّعُهْ

وهذا ما حدث سنة النكسة 1967م ، ومنهم أيضا الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري 1899/1997م الذي كانت تدرس قصيدته هذه لنا ونحن تلاميذ صغار أيام كان القائمون على المناهج من خيرة الأدباء والعلماء رحم الله تلك الأيام وسقاها صوب العهاد:

سَيُلْحِقُونَ فَلَسْطِينًا بِأَنْدَلُسٍ
وَيَعْطِفُونَ عَلَيْهَا البَيْتَ وَالحَرَما

وَيَسْلِبُونَكَ بَغْدَادًا وَجِلَّّقَةً
وَيَتْرُكُونَكَ لَا لَحْمًا وَلَا وَضَما

وهذا ما شاهدناه وما نشهده في هذه السنوات الخدّاعات..رحم الله الشعراء الثلاثة بواسعٍ من رحمته وتغمد أرواحهم بسابغ من مغفرته.

2- لِمَنْ يَسْتَسْهِلُ الأمْرَ :

نحنُ كتبْنا قصيدةَ البيتِ المُفْرَدِ بعدَ أنْ كتبْنا عشَراتِ القصائدِ التي تجاوزَعددُ أبياتِ الواحدةِ منْها المئاتِ بعد مسيرة طويلة من صحبة الشعر وحفظ الآلاف المؤلفة من الأبيات الشعرية التي تنحو هذا النحو وتنطبق عليها شروط البيت المفرد فلا تظنُّوا الأمر بهذه السهولة ولا تحسبوه على هذا النحو من البساطة في التناول للبيت المفرد فهو أصعب من القصيدة ذات العدد الكبير من الأبيات وتحتاج للدربة والمران والممارسة والخبرة لأن الشاعر يعتمد فيها على تجاربه الحياتية وموسوعية اطلاعه ولا تتأتَّى للشاعر إلا في نهايات تجربته الشعرية فلا يعقل أن يبدأ الشاعر حياته الشعرية بها أو أن يخوضها في مبتدأ مشواره الشعري لأنها تقتضي من كاتبها : 1-الإيجاز والتكثيف
2-والاقتصاد اللغوي وشفط الدهون والزوائد الكلامية 3-وتحتاج لتناسق الحرف مع الحرف والكلمة مع الكلمة 4-واستثمار طاقات اللغة إلى أقصى حدودها الممكنة 5-واللفظة الشاعرة 6-والكلمة الموحية 7-والموسيقا الداخلية بدقة متناهية 8-وتتضمن فكرة عميقة 9-وحشدا نفسيا 10-وإحالة 11-ومشهدية 12-وإضاءة 13-ودهشة 14-وجمالية 15-وحكمة 16-وسيرورة 17-وَجِدَّة 18-وتَمَثُّلا 19-المفارقة 20-العنونة 21-التقفية 22-التوهُّج 24-الإقناع 25-التأثير 26-الأخلاقية 27-الاستبصار ، وغير ذلك من عناصر ومقومات البيت المفرد الناجح …

* سعيد يعقوب شاعر أردني صاحب أول ديوان للبيت المفرد في الوطن العربي قديماً وحديثاً .

3- في الشعر وعنه :

أخي الحبيب صيام..الشاعر الجميل تحياتي وتقديري وشكرا لك على ثقتك بطلب رأيي في هذا الأمر وأنت تعلم ويعلم كثيرون أنني من أزهد الناس في الكتابة في النقاشات والحوارات إن لم يطلب مني ولا أخوض مع الخائضين ولكنني لا أتألم من شيء بقدر تألمي من ربط الشعر العربي الأصيل بالخليل فيقال الشعر الفراهيدي أو الخليلي والشعر كما تعلم ويعلم الناس سابق على الفراهيدي بأزمان وما فعله الخليل هو عملية استقراء للشعر العربي ووضع الأشعار في خانات بحسب أنغامها ثم وضع التفاعيل وأطلق أسماء بحور عليها فهو عمل في شيء موجود درسه وحلله وعلى أهمية عمله الذي جاء أساسا لتعليم غير العرب من الأعاجم أنغام العرب في قول الشعر لأنه رأى خروقا وخروجا على هذه الأنغام لدى بعض الشعراء في ما يسمى لدينا كسرا اليوم حتى لا يقعوا فيه والشعراء العرب قالوا الشعر وفق هذه الأنغام قبل الخليل ولم يخطئوا فيها لصفاء آذانهم ونقاء فطرتهم فهل نقول إن الخليل جاء بالشعر ليرتبط به والشعر سابق عليه فيخرج علينا متنطع ليقول الشعر الخليلي أو الفراهيدي ويصح ذلك إن قلنا إن سيبويه في النحو هو من علم العرب كيف ينطقون الكلمات مرفوعة ومضمومة ومجرورة وشبيه بما فعلاه ما فعله في العصر الحديث العالِم مندليف حين وضع الجدول الدوري للعناصرالكيميائية المئة والثمانية عشرة فهل نقول إنه اخترعها وهي كانت عند أرسطو أربعة فقط الماء والهواء والنار والتراب ولذلك أقول إن العرب قالوا من الشعر ما وافق أحوالهم النفسية وهذه الحالات النفسية تقتضي نغمات خاصة تنسجم مع حالاتهم هذه من فرح وطرب أو حزن وألم أو تفكر وتدبر إلى آخره وقد استصفوا هذه الأنغام عبر مسيرة طويلة من الزمن وارتضوها لأنفسهم وفيها متسع لاحتواء كل حالاتهم النفسية وانفعالاتهم ولم يزيدوا عليها ولذلك أخذ أئمة الشعر برأيهم وساروا على طريقتهم في كل العصور ولو كان هناك خير في غيرها لقالوا شعرا يخالف طريقة العرب ولا ينظر لمن شذ وخالف فهي أشياء قليلة لا يعتد بها ومن هنا فأقول إن العروض علم تم واكتمل كالنحو تماما ولا يجوز الإضافة عليه ولا يجوز الخلط بين التفاعيل في البيت الواحد بل وهو يرقى لدرجة التقديس عندي إذا نظرت إليه من زاوية حمل هذه الأمة على مرجعية ثابتة موحدة وإلا أصبح الأمر فوضى وكل شخص يستسهل القيام بوضع بحر جديد بإضافة وحذف وخلط التفاعيل ببعضها أما الموشحات فقد ظهرت لتلبية حاجة اقتضتها ظروف معينة في حقبة ما من الزمن وكم بيننا الآن ممن يكتب موشحا فقد زال وانقرض هذا الفن وأما الشعر الحر فهو تقييد وليس فيه من الحرية شيء إذ يقوم على استخدام البحور الصافية وهي قليلة العدد بالنسبة للبحور الممزوجة ولم يأتوا بجديد سوى إطلاق عدد التفاعيل دون انتظام في السطر الشعري الواحد ويزعمون أن الشعر العربي الأصيل قاصر عن استيعاب الانفعالات النفسية للإنسان المعاصر وهذا غير صحيح إذ كيف استوعبها منذ خمسة عشر قرنا أو يزيد للآن ويمكن اعتبار الشعر الحر بحرا شعريا بكل أوزانه يضاف للبحور الستة عشر كما قال الشاعر أحمد فرح عقيلان في كتابه القيم جناية الشعر الحر وبهذا يتم التصالح معه وحل الإشكال فيه أما ما يطلقون عليه قصيدة النثر فلا يمكن أن يكون هناك شعر ونثر معا فليبحثوا عن مصطلح جديد لها بعيدا عن الشعر فلا وجود للشيء ونقيضه في حال واحدة ولو اتبعناهم في ذلك لخرج علينا من يقول إن القرآن شعر وهذا لا يجوز بحال لأن من هو أدرى منا بالشعر من فصحاء العرب سلموا أنه ليس شعرا ولا نثرا أما الحركات الشعرية الوليدة التي تصدر بياناتها وتهاجم الشعر العربي الأصيل بدعوى التجديد فنحن نضع عليها علامات استفهام كثيرة فمن يدعمها ومن يمولها ومن يصفق لها وما مجلة شعر وآداب اللبنانيتين عنا ببعيد ومصيرها إلى اللاشيء كما حدث لما قبلها من الحركات المشبوهة التي تصطف في الخندق المعادي لأمتها وثقافةتها وتراثها وتاريخها وشعرها ورموزها الأدبية والثقافية ولم أر أحدا ممن يحسن قول الشعر العربي الأصيل يؤثر عليه كتابة الشعر بغير طريقته وإنما لجأ هؤلاء لتلك الأساليب الجديدة هربا من مؤونة العروض وكلفته طلبا للتخفف وإيثارا للسلامة وأنا أتحداهم أن يكتبوا بيتا واحدا جميلا فقط على بحر المنسرح أو السريع أو الخفيف أو المديد مثلا وأنا أُسَرُّ وأُعْجَبُ برؤية الشباب العربي والناشئين اليوم من الشعراء يرتدون إلى الأصول والجذور ويكتبون الشعر العربي الأصيل في كل أقطار العروبة وكأنهم أدركوا أن لا شعر إلا الشعر العربي الأصيل وما يقال خارج أنساقه إنما هو هرطقة وسفسطة ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو غير مطلع ومتابع لما يُنشر وأنا مطمئن تماما أن المستقبل هو للشعر العربي الأصيل وهذا رأي رجل كان يكتب الشعر موزونا دون أن يتعلم العروض وهو فتى ناشئ وأصدر ديوانه الأول وهو في الثامنة عشرة من عمره ووضع على كل قصيدة اسم بحرها في ذلك الزمن وعمل على تدريس العروض ثلاثين عاما وله من الدواوين الآن وهو مكتهل عشرون ديوانا شعريا صادرا وأفنى عمره في قراءة الشعر منذ الجاهلية الأولى حتى زمننا هذا مطوفا شرقا وغربا في الشعر العالمي للأمم جميعها / وأخيرا أقول لك لقد أجملت ولم أفصّل.

4- حكايتي مع أحمد شوقي :

أحمد شوقي هو أكبر شاعر في نظري في المعاصرين ، ولم يأت بعد المتنبي-وبينهما ألف عام-من هو أعلى منه كعباً في الشعر ، وحبي له لا يعرف حداً ، وليس له نهاية ، وبدأت حكايتي معه مبكراً ؛ فمما أتذكره ولا أنساه أنني كنت في الصف الخامس الابتدائي وكان يُدَرِّسُ لي مُدَرِسٌ مفتون بأحمد شوقي ، وكان يتمشى داخل الصف وهو يردد لنفسه-بصوت مسموع-مطلع قصيدة شوقي الشهيرة في نكبة دمشق ، وهي آية من آيات البيان ومن عيون الشعر :

سلامٌ من صِبَا بردى أرقُ
ودمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دَمِشقُ

كنت أصغي للبيت..فيداخلني من السحر ما يداخلني! ، وكنت أعتقد أنه هذا الكلام هو من القرآن الكريم!! ، فلا يعقل أن يقوله بشر في ذلك الوقت! ، لم نكن نجرؤ على سؤال المدرس عن شيء..هيبة له ، كان المعلم يمثل لنا شيئاً خرافياً أسطورياً ، وحفظت البيت ، كان هذا أول معرفتي بشوقي ، ثم بعد ذلك التاريخ بوقت وجيز وكنت دون الثانية عشرة وقعت تحت يدي “مسرحية عنترة” لشوقي ، بين كتب في بيت عمي ، فكنت أقرؤها وتحدث لي من النشوة ما تحدث! ، ثم عرفت خطاي الخجولة الطريق إلى مكتبة المدرسة ؛ فوقع بين يدي ديوان شوقي ، وكأنني عثرت على كنز!! ، وبدأت أقرؤه وأنا أحلق في عالم مسحور ، ولكن كان لا بد من إرجاعه لمكتبة المدرسة حتى لا أحرم من دخولها ، فكيف أحتفظ بديوان شوقي دائماً ؟! ، ثم صممت على شراء الديوان لأحتفظ به بشكل دائم ، كنت في الثالثة عشرة من عمري ، كان والدي رحمه الله يعيل أسرة كثيرة العدد ، ومن الترف والبذخ أن أطلب منه شراء ديوان..فما العمل؟! ، فصممت على العمل يوماً كاملاً في العطلة الصيفية ، عاملا لنقل الحجارة على صعوبة العمل ومشقته على جسدي النحيل في ذلك الوقت ويدي الطريتين ، وفي نهاية اليوم قبضت خمسة دنانير ، وكانت ثروة بالنسبة لي ، نسيت التعب واستعجلت النهار ليطلع ، وذهبت لاقتناء ديوان شوقي ، وهو اليوم من أغلى مقتنياتي ، رحم الله شوقي ، فما زال الأحب لقلبي ، بالرغم من أنه لم يكتب عن فلسطين شيئاً..إلا عرضاً عند رثائه للحسين بن علي ، وإشارته لإمارة شرق الأردن في قوله :

وبنوا دولةً وراءَ فلسطيــ
ينَ..كعابُ العُلا فُتَاةُ العزائمْ

وحتى بعد أن توسعت المعارف ، ووجدت منابع شعره ، وتلمست مواطن تأثره بمن سبقه من الشعراء العرب الأقدمين ؛ فما زال يمثل لي قمة..يصعب تجاوزها على من جاء بعده من الشعراء.

5- يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره :

حين نسمع هذه المقولة ؛ ينصرف ذهن الدارسين والمتخصصين إلى تلك الجوازات التي يُسمح فيها للشاعر بإتيانها ، ولا يسمح للناثر أن يقع بها من منطلق أن الشعر موطن ضرورة ، وفي النثر منادح عنها كمد المقصور وقصر الممدود وصرف الممنوع من الصرف أو عدم صرف المصروف..إلى آخر تلك الجوازات المعروفة لدى أهل هذه الصنعة من الشعراء ومتخصصي الأدب والنقد ، أما عامة الناس فهم في غنى عن معرفتها وذهنهم خال منها ، ولا تثريب عليهم في ذلك ، والواقع أن قلة من الناس تلتفت إلى البعد المعنوي للعبارة الذي يتمثل في أننا نقبل من الشاعر ما لا نقبله من غيره في جمل وعبارات وأبيات من الشعر ، إما استظرافاً له ، أو إعجاباً به ، أو إيماناً بما يقوله..لفرط ثقتنا به ومحبتنا له ، ومن ذلك أننا نقبل الغزل من شاعر كبير في السن في حين نجده ممجوجاً ومبتذلاً وإسفافاً من غيره من الناس-إن لم يكن شاعراً-ممن يماثله في السن ، ومن ذلك ما يأتي من جلد للذات ، أو إهانة للشعور العام القومي أو الوطني ، تبكيتاً للناس ولوماً لهم ، على ما فيهم من عيوب ونقائص ومن باب ذكر المساوئ لحثهم على تجنبها وتسليط الضوء عليها ، واستخدام أسلوب التهكم والسخرية في النقد اللاذع للفت الأنظار إلى عيوب اجتماعية بهدف صرف الناس عنها ، ومن ذلك ما فعله المتنبي بقوله :

أغايةُ الدينِ أن تُحْفوا شواربكم
يا أمةٌ ضَحِكَت من جهلها الأممُ

وقوله :

وكم ذا بمصرٍ من المضحكاتِ
ولكنهُ ضَحِكٌ كالبُكَا

أو قول معروف الرصافي :

ناموا ولا تستيقظوا
ما فازَ إلا النوَّمُ

وتأخروا عن كل ما
يقضي بأن تتقدموا

ومن ذلك ما قاله حافظ إبراهيم في البائية الشهيرة : ” وكم ذا بمصرٍ من المُضحِكَات” كما قال فيها أبو الطيب …. وما قاله يوسف الخطيب :

أَكادُ أُؤمِنُ، مِن شَكٍّ ومن عَجَبِ
هَذيِ الملايينُ لَيْسَتْ أُمَّةَ العَرَبِ

وغيرهم كثير … إذن نحن حين نحب الشاعر ونثق بصدق حبه لنا ، ونعلم مدى حرقته علينا ، ونؤمن بصدق توجهاته ؛ نجيز له ما لا نجيز لغيره ، ونقبل منه ما لا نقبله من سواه.

6 – ملاحظات شعرية عابرة :

المدقق في العصور الشعرية..يجد تفاوتاً كبيراً بينها..من حيث اللغة والأسلوب والمضامين ، فإذا قرأنا الشعر الجاهلي-ما صح منه تحديداً في نسبته للعصر الجاهلي-على سبيل المثال ؛ لمسنا فرقاً كبيراً بينه وبين الشعر العباسي أو الأندلسي أو المملوكي ، وهذا الفرق هو فرق طبيعي ، يتناغم مع مستجدات العصر وتطوره ، سواء على صعيد اللفظ أو على صعيد المعنى ؛ فالشعر كائن حي متطور ، وفي مطلع القرن العشرين كانت هناك حركة إحياء واسعة في إعادة الشعر إلى سابق مجده ، وتخليصه من كثير من الشوائب التي اعترته في العصر العثماني ، وغربلته مما لحقه والتاث به من النظم والجفاف والموات الذي أصابه ، كانت هذه الحركة على أيدي شعراء كبار من أمثال شوقي وحافظ ومطران ، وسار على خطاهم في ما بعد شعراء استطاعوا المضي به على المنهج نفسه بقوة وثبات ، وأضافوا إليه كثيراً مما أسعفتهم به ثقافتهم واطلاعهم الواسع على الشعر العالمي غربا وشرقا ، ولعل أبرز هؤلاء عمر أبي ريشة وبشارة الخوري والجواهري ونزار قباني وإبراهيم طوقان ، واستطاعوا أن يعبروا بقوة عن عصرهم بألفاظه وبأحداثه وبأفكاره ، وحملوا رسالته بما يلبي ذائقة أبناء عصرهم ، واليوم نحن نشهد استمرارا لهذه الخطوات في شعراء كثر من أبناء ما بعد الألفية الثانية..استفادوا من تجارب من سبقهم ، وطوروها وأضافوا إليها ، حتى أصبح الشعر العمودي قادراً على الإقناع والدهشة ، وإدخال المسرة للقلوب والنشوة للأرواح ، ويقف بثبات أمام موجات التطرف والمغالاة التي تضرب في نصوص قصيدة التفعيلة ، التي أراها في انحسار كبير وتراجع ملحوظ أمام تقدم الشعر العمودي المسنود بأيدي الشباب والشابات من الفتيان المبدعين والجيل الجديد في كل أقطار الوطن العربي ، كما هو الحال بالنسبة لقصيدة النثر التي وصلت لنفق مسدود ، وارتطمت بالجدار لفقدانها الرسالة ، ولما تنطوي عليه من مجانية ، كل ذلك يبعث على الطمأنينة والثقة بمستقبل قصيدة العمود ، التي أثبتت أنها قادرة على استيعاب انفعالات النفس المعاصرة بكل ما يختلج فيها من عواطف وما يمور فيها من أفكار ، بقي شيء..وهو أن ممن يعجبني من شعراء ما بعد الألفية الثانية وهم كثر في الوطن العربي-وإن كان ولابد من تنويه لأسماء بعينها- فأذكر هنا السوري الشاعر محمد البياسي والمصري أحمد بخيت والأردني الشاعر راشد عيسى ، فهؤلاء يمثلون طليعة الجيل المعاصر من الشعراء الكبار ، الذين أتقنوا لعبة الشعر بمهارة ، وذكرهم لا يعني أن ليس هناك غيرهم ، مع محبتي واحترامي للجميع.

7 – آراء خاصة..غير ملزمة :

* إتقان الوزن الشعري دليل أصالة الموهبة الشعرية في النفس الشاعرة.

* القدرة على الارتجال هي الفيصل بين الشاعر الكبير والشاعر الإعتيادي.

* إمتلاك ناصية “بحر المنسرح” هو الفارق بين الشاعر القدير والشاعر الإعتيادي.

* صفة الشاعر العربي الكبير لا تطلق إلا على من يؤمن بوَحْدَة بلاد العرب ، وعبَّر بشعره عن آمال وآلام شعوب أمته العربية في كل أقطارها .

* لا فصلَ بين الشاعر وشعره ؛ فكلاهما ينوب عن الآخر.

* المعيار الحقيقي لتمييز الشاعرالمبدع عن الشاعر التقليدي ، أو المُلهِم عن الشاعر المُلهَم ، هو التجديد والإبتكار في المعاني والمواضيع والصور والأخيلة في النصّ الشعريّ

* الشاعر المتميز هو الشاعر المختلف عن غيره ، الذي لا تستحضر شاعراً آخر عند قراءة نصه ، صاحب النكهة الخاصة والبصمة المغايرة ، من له معجم لفظي خاص به ، من يحلق خارج السرب وحده.

* الشعر طبقات ، والشعراء طبقات ، ولا يحل في ذراها إلا من أوتي حظاً عظيماً من البلاغة والفصاحة والبيان ، وعمقاً في الموهبة وقوة في النفس ، وصحة في الفطرة وسلامة في الذوق ، وتوقدا في الذكاء ، وسعة في الثقافة وبسطة في العلم.

* اللغة في كل شيء وسيلة لهدف ؛ إلا في الشعر ، فهي وسيلة وهدف في آنٍ معاً .

8 – خواطر ومضية متفرقة :

* الشعر..ما قصد به الشاعر أن يكون شعراً حين أرسله ، ولذلك يخرج منه ما وافق الوزن من المثل والنثر والقرآن والحديث وغير ذلك مما لم يُقصد به أن يكون شعراً ، وإن وافق الوزن فليس كل موزون شعرا ..ولكن الشعر الذي يرسله الشاعر درجات أو طبقات أو سمها ما شئت فمنه الرديء ومنه المتوسط الجودة ومنه الجيد ومنه الشعر المُلَهم وذلك لا يكون إلا للشاعر المُؤَتَّى له مما لا يستطيعه غيره ولا يجيء به سواه فهو شعر مُلْهَم حار به الأوائل فنسبوه لعبقر وادي الجن أو للنبوغ والذكاء الشديدين أو للملأ الأعلى أو غير ذلك من القوى الخفية التي هي فوق قدرة البشر وعجز عن تفسيره الأواخر فاستسلموا عجزاً .

* الشاعر أعظم من الفيلسوف ، وأكبر من المصور ، وأهم من الموسيقار ، وأرفع من الزعيم لأنهم بعضه.

* الشِّعْرُ أخلاقٌ وسلوكٌ ومبادئُ قبلَ أنْ يكونَ حروفا وكلماتٍ وجُملا.

* أسوأ اللحظات التي تمر بالشاعر هي تلك التي يكون فيها مضطرا لشرح بيت له

* صديقي الناقد الحداثوي..أتفق معك تماماً أن ثلاثة أرباع الشعر العمودي ليس شعراً ، ولكن أربعة أرباع ما بعد الحداثة أيضاً ليس شعراً.

* ما أشبه القصيدة بالإنسان الأنيق ؛ فالمعنى روحه ، واللغة جسده ، والموسيقى ثيابه ، والصورة حليته ، والعاطفة عطره ، والإلقاء صوته.

* على الشاعر أن يشعل الفتيل فقط..ثم يتولى إلى الظل.

* ويسألونك..أيهما أجمل-من وجهة نظرك-شعرك القديم أم شعرك الجديد؟ : شعري القديم أجمل لأنني كتبته لنفسي ، أما شعري الجديد فكتبته للناس.

* الشعر مسألة ذوقية خالصة ، وجماله نسبي ، يختلف من متلق لآخر ، لأسباب عديدة ، فما هو حسن لديك قد يكون قبيحاً عند غيرك ، وما هو قبيح عندك قد يكون حسناً لدى سواك ، وإنما مرَدُّ ذلك لإختلاف المرجعيات الذهنية ، وتباين الأنساق الفكرية ، وتعدد الميول ، وتنوع الأهواء ، ولكن الشعر الأجمل في نظرنا ؛ هو ذلك الضرب من القول الذي يترجم وهج مشاعرنا ، لحظة سماعه أو قراءته ، أو ذلك الذي يعبر عن كامل قناعتنا بما يقوله.

* والله إني لأعرف كثيراً ممن هم أعلم بشعري مني ، وممن يروونه ويحفظونه أكثر مني ، وهذا مدعاة فخر وإعتزاز لي ، ويدخل السرور والبهجة على نفسي ، ولا أمتع ولا ألذ عندي من ساعة أجلس فيها إليهم ؛ فأسمعه منهم ، وإني لأحب أن أسمعه من غيري.

* هل على الكاتب أن ينزل لمستوى القراء؟” على ما في ذلك من تحقيق لشعبية رخيصة على طريقة هذا ما يطلبه الجمهور أو الجمهور “عاوز كده” ، أم يتوجب عليه أن يرتفع بهم لمستواه ويمدهم بالمعرفة ، وأن ينير السبل المعتمة أمامهم سؤالٌ لطالما شغلتني الإجابة عليه ، ولكنني أقول إن الكاتب بحكم موقعه المتقدم ثقافياً وبصفته الأكثر إلماماً بحركة التاريخ وقوانينه وسنن الحياة ، ولكونه مستودع الخبرة والتجارب من خلال سعة إطلاعه ، وثراء مكنوزه من المعرفة ؛ عليه أن يؤدي دوره الطليعي بتوجيه حركة الشعب ، وتحديد جهة المسير ، ورفع الشعلة أمام الجماهير ، ليعيد تشكيل الوجدان الجمعي ، وصياغة العقل الكلي للشعب والأمة ، من هنا..تنبع أهمية الكاتب وخطورة دوره بإنحيازه للقيم المطلقة للحق والخير والجمال التي يؤمن بها ويدعو الناس للإيمان بها.

* الكاتب الذي لا يحترم ذكاء القرَّاء، ولا يقرُّ أن بينهم من هو أذكى منه بدرجات ، هو كاتب غبيّ بالضرورة.

* الصورة الفنية في القصيدة الشعرية وسيلة وليست غاية في حدّ ذاتها ، هي عنصر من منظومة تتألف من عديد من العناصر ، تشكل بمجموعها جمال القصيدة ،ونضوجها ،وكمالها ،وتلتحم مع بقية العناصر الأخرى لتؤدي وظيفتها فقط ، زيادة في استدخال المتعة لتزيين الفكرة ، وتأتي لتعميق الفكرة وتأكيدها في ذهن القارئ أو السامع ، لا تصدعوا رؤوسنا بالصورة الشعرية ، وكأن شعر القدماء خلا منها ، وأنكم عثرتم على كنز جديد لم يهتد إليه القدماء ، لا تقوم القصيدة إلا على أساس، وأساسها الفكرة ، وكل شعر بلا فكرة هو شعر بلا قيمة ، وشاعرٌ بلا قضية ليس شاعراً.

* الشعراء يبصرون بقلوبهم ؛ لذلك فهم يرون في العتمة.

* أوقفني في مقام الذوق وقال : ثلاثة أرباع ما تقرأ أو تسمع من شعر ليس شعراً ، وثلاثة أرباع الربع الباقي مقاربة للشعر ، الشعر أندر من الكبريت الأحمر .

* أنا لا أنظر لما تقول … ولكن لما وراء ما تقول عادة …هذا في أعتقادي هو الأهم.

* كُلُّ شِعْرٍ يَخْلُو مِنَ الحِسِّ وَالفِكْرِ وَالمُوسِيقَى وَالمَجَازِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.

* هُنَاكَ شَاعِرٌ مُلْهَمٌ ،وَهُنَاكَ شَاعِرٌ مُلْهِمٌ وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا بَعِيدٌ ، فَالشَّاعِرُ المُلْهَمُ المُلْهِمُ ،الذِيْ تَتَوَالَدُ قَصَائِدُهُ قَصَائِدَ ، وَتَتَنَاسَلُ أَبْيَاتُهُ أَبْيَاتًا لَدَى الشُّعَرَاءِ الآخَرِينَ ، هُوَ الشَّاعِرُ الكَبِيرُ الخَالِدُ العِمْلَاقُ ، المَهْجُوسُ دَائِمًا بِالتَّجْدِيدِ وَالابْتِكَارِ وَصِنَاعَةِ الأَفْكَارِ ، وَأَمْثَالُ هَؤْلَاءِ قَلِيلٌ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ

* لا أستطيعُ أنْ أقولَ لكَ ما هوَ الشِّعْرُ بالضَّبطِ ، ولكِنْ أستطيعُ أنْ أدلَّكَ عليهِ .

* يموت الشاعر قبل موته كثيراً جداً ؛ ليحيا بعد موته كثيراً جداً .

* إذا سقط الشاعر في حمأة الإقليمية البغيضة ، و مستنقع العنصرية اللئيمة ؛ فاقرأ على روحه الفاتحة ، و على شعره السلام .

* لا أعتبر الشاعر شاعراً كبيراً ؛ إلا إذا استقل بشخصيته ؛ و قام بنفسه وانفرد بصوت يَمِيزُه عمَّن سواه ، لا يستحضر أحداً من الشعراء ، إذا أصغيتَ له أرسى لفنه تقاليدَ خاصةً ، و جعل لإبداعه أعرافاً جديدة ، فإذا قرأتَ شعره غُفْلا من إسمه ، قلتَ : هذا فلان..هذه بصمة روحه ، ونكهة ذاته ، و أنفاس قلبه ، و عبير وجدانه.

* من أمارات شعر الشاعر الكبير..أنه يجيد التصرف في فنون القول جميعها ، ويحسن الكلام في شتى الموضوعات ، فلا يقتصر على لون دون آخر ، ولا يكتفي بنوع منصرفا عن سواه ، فإذا مدح رفع ، وإن هجى وضع ، و إن تغزل أطرب ، وإن وصف أعجب ، و إن رثى أبكى ،و أحزن ، و إن عاتب أندم وليَّن ، وتراه في كل ذلك أبدع وأحسن ، فما خار ولا ضعف ولاعجز ولا قصر عن غرض طلبه ، وجد لديه كل طالب ما طلب من بديع الشعر ، ومن عذب الكلام ، فحاز ثناء قارئه ، وتصفيق سامعه.

* من أمارات الشاعر الكبير أنه يتوفر على خصلتين تكونان أبرز من سواهما فيه ، و قلَّ أن يخلو منهما شاعر كبير ، الأولى هي القدرة على الارتجال ، فلا يُعجز الشاعر أن يقول أبياتا إن اقتضى الموقف أن يقول ، أو إن طلب منه أن يؤلف شئيا ، وما أقبح أن يقال شعر فيه ، ولا يجيد الرد عليه مباشرة ، ولا يَحْسُنُ به الاعتذار ، وهذا يكشف عن علو كعبه ، وامتلاكه لزمام البيان ، وسيطرته على ناصية اللغة ، وأما الثانية فهو حسن الإلقاء للشعر ، و نَدُرَ من بين الكبار ؛ من لا يجيد إلقاء شعره ، و تكليف سواه بإنشاده نيابة عنه ، فهو يحس بحرفه ويهيم بلفظته ويلون بصوته ويعلو بنبراته ، أو يخفض منها على حسب إحساسه بما يقول ، وبما يتلاءم مع مشاعره ، أو يعبر بجسده وملامح وجهه وحركات يده ، عما يريد من المعاني ، فيذهل سامعه ، ويأسره بما جمع عليه من سحر الشعر ، ومن سحر الإلقاء .

* الدهشة التي يتحدثون عنها في الشعر لا تقف عند حدود الصورة الغرائبية السريالية فقط ، إنها تتجاوز ذلك لتشمل عمق الموهبة ، الشخصية الشعرية ، إمتلاك الأدوات ، صدق العاطفة ، العبارة اللغوية ، سعة الخيال وخصوبته ، القوافي ، الإلقاء ،الوحدة العضوية ، الوحدة الموضوعية.

* لا شِعْرَ خارجَ الوزنِ، لا شِعْريَّة خارجَ المجازِ، لا شاعِريَّةَ خارجَ الموهبة .

* مما يدل على أن الشعر إلهام وإيحاء ، وله علاقة بما هو خلف هذه الدنيا ؛ أن الشاعر لا يسهل القول عليه كل وقت ، ولا يكون له سبيل إلى الشعر متى شاء ، وقد يعجز عن قول بيت واحد من الشعر وقتاً طويلاً من الزمن ، وعلى سبيل المثال كنت أقول قصيدة واحدة في العام فقط ، وأستمر هذا لسنينٍ عددا ، وأحيانا يمر اليوم الواحد فلا ينقضي إلا و هناك أكثر من قصيدة ، فسبحان الله الذي قدر فهدى ، و علَّم الإنسان ما لم يعلم .

* آخر تعريف للشعر عندي هو : “الشِّعْرُ هُوَ مَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقُولَهُ الشَّاعِرُ تَمَامَاً وَبِكُلِّ دِقَّةٍ ”
* لا بد للشعر من حافز، وما أحوجه لمثير، ولاغنى له عن محرض عليه، فإن عُدم هذا عُدم ذاك ، وقل أن يحضر أحدهما فيغيب الآخر ، و إلا خرج باردا ، ميتاًً ، من لسان جامد، إلى جسم راقد ، بذهن شارد .

* الشعر هو ما سكت عنه الشاعر ، ولم يصرح به ، وستره بما قاله تمويها وتعمية للمعاني الكامنة فيه ، و هو (أي الشعر ) الكائن الحي الوحيد الذي ولد كبيراً ، و صغر و ضؤل مع الأيام ، أعني أن الإنسان الأول كان أكثر شاعرية منا اليوم لأنه كان أقرب إلى الفطرة ، و أصفى ذهنا ، و أرق قلبا ، وأشف إحساساً منا نحن أصحاب الحضارة الزائفة ، التي سقطت بها القيم ، وانهارت بها المُثل .

* للذين يعيبون رتابة الوزن في العروض ويتفلتون منه تفلت الإبل من عُقُلها ، هلا عابوا على قلوبهم رتابة نبضها ، وقالوا لدورتهم الدموية إياك أن تنتظمي ، وحاذري أن تثبتي على حال واحدة ، وهلا قالوا للشمس لا تشرقي بموعدك الثابت ، ولا تغربي بوقتك المعلوم ، وهلا قالوا للقمر اخرج من دورتك المعتادة ، وقد خلق الله الكون موزوناً كل شيء فيه بمقدار ، فلا إنفلات و لا فوضى و لا عبث و لا إستهتار .

* لابد للشاعر من إمتلاك مهارة إختيار العناوين لقصائده ، بل لدواوينه ، لما للعنوان من أهمية، فهو إما طارد أو جاذب للمتلقي ، وهو عتبة النص ،أما القصائد فلابد أن يكون العنوان مستمداً من الثيمة الأساسية للقصيدة التي بنى الشاعر عليها قصيدته ، فلا عبثية ، ولا مجانية في بنائها ، وهذا يشير لأهمية الوحدة الموضوعية للقصيدة من جهة ، ومن جهة تأكيد على الرسالة التي ينبغي أن يقوم بها فن الشعر ولا بد للعنوان أن يكون مختصراً إسماً لا فعلاً ، مكوناً من كلمةٍ واحدة ، فإن زاد لا يتجاوز الكلمتين ، وهذا خير ما استقر عليه الذوق لديَّ والمعرفة عندي .

* من يقرأ المتنبي ، ويتفهم شعره على النحو الأمثل ، لا يحدث نفسه بكتابة الشعر، كل ما قاله الشعراء بعده ليس أكثر من محاولات صبيانية لكتابة الشعر ،هذا الرجل ،لم يترك لنا شيئا لنقوله ،لم أغبط شاعراً على شعر كما غبطت المتنبي في الأولين والآخرين ، شعر المتنبي قمة نضوج الشعر العربي .

* الشِّعْرُ هُوَ صِيَاغَةُ أَكْبَرِ حَجْمٍ مِنَ الجَمَالِ ،فِيْ أَقَلِّ مَسَاحَةٍ مِنَ الكَلَامِ .

* أتركُ الشِّعْرَ ما تَركَنِيْ فإنْ أقْبلَ عليَّ ببعضِهِ أقبلتُ عليهِ بِكُلِّي .

* ليستْ وظيفةُ الشَّاعرِ أنْ يَقرعَ الجَرسَ على أهميةِ ذلكَ ، فَلِلْجَرَسِ مَنْ يَقْرَعُهُ ، و لكنَّ وظيفتَهُ الأولى والأهمّ ؛ أنْ يذكِّرَ أنَّ هناكَ جرسَاً يَجبُ أنْ يُقرعَ ، و هنا تحديداً تكمنُ خطورةُ الشَّاعرِ و عظمةُ الشِّعْرِ .

* أسوأ لحظة تنتاب الشاعر ،أن يكتب قصيدة في ذروة الروعة ،ثم يطويها عن النشر .

* لقب شاعر لا تملك جهة-أياً كانت هذه الجهة-صلاحية إعطائه ، الجهة الوحيدة المخولة بذلك فقط هي نص الشاعر نفسه.

* الشاعر الحقيقي قريب الدمعة التي سرعان ما تسقط من العين ، أو ما تسقط من القلب .

* ترى تصفو الأيام والليالي ، فأعود لإرتشاف قهوتي ، وأنا أستمع لصوت فيروز ، وأمامي وجه حبيبتي، وقصيدة شعر ، وباقة زهر..مُجَدَّداً…أشكُّ.

9 – أدب الفيس من منظوره :

* أدب الفيس بكل أنواعه ، شعر ، قصة ، مقالة خاطرة ، ومضة … هو أدب تفاعلي تواصلي تجريبي ، قائم على الأخذ والرد ، خاضع للتعديل ، والتصويب والمراجعة ، ولا يأخذ شكله الحقيقي والنهائي إلا بين دفتي كتاب ، فالحكم عليه لا يكون إلا هناك ، حيث يستقر ، ويستوي على عوده .

* الفيس هو إحدى الأدوات والوسائل التي أستخدمها لنشر شعري والتعريف به ، وهو حق مكتسب ومشروع ، إلى جانب الفضائيات والإذاعات والأمسيات والمناسبات المختلفة الدينية والاجتماعية والوطنية وغيرها والصحف والمجلات ، وطباعة ونشر وتوزيع دواويني الشعرية ، وحفلات توقيع الكتب ، وهو أقربها لنفسي لأنه يتيح لي فرصة التواصل المباشر مع عشاق الشعر ، والتفاعل الحميم معهم مستفيداً من ملاحظاتهم وآرائهم التي تحظى بكل الحفاوة والتقدير والإحترام مني ، ولذلك فأنا لست شاعر فيس كما يعتقد بعض الناس بالمقام الأول ، هو كما أسلفت إحدى الوسائل وليس كلها بالنسبة لي.

* للذين يقللون من قيمة الفيس كوسيلة إعلامية فرضت نفسها بقوة على أرض الواقع ، بعيداً عن الرداءة التي تَعْتَوِرُ كثيراً من الكتابات الساذجة ، والسطحية التي تسود فضاءه الأزرق ، ولا زالوا يعيشون بعقلية الجيش الإنكشاري والعهد العصملي أقول : الفيس هو الوسيلة الإعلامية الأقوى والأبرز والأكثر إستخداماً والأوسع إنتشاراً اليوم ، وهو الذي حطم إمبراطورية الصحافة الورقية ، وفتح الحدود وحرر المبدعين من تغول سدنة الثقافة عليهم ، وأوصياء المعرفة ، الفيس هو السماء المفتوحة والهواء الذي لا يعترف بالحواجز ، ولا يقيم وزنا للجغرافيا الضيقة ، ولولاه لما التقينا بأناس رائعين من أقصى المعمورة ، ولولاه لما اطَّلعنا على أسماء مغمورة بلغت ذروة الإبداع ، الفيس كشف المستور وأبرز المسكوت عنه وأَطْلَعَنا عما يدور في أعماق هذا العالم المترامي الأطراف ، أيها الفيس شكرا لك.

* أشد ما يسوؤني- هنا على صفحات الفيس- أن يكتب أحد الجهلاء ، أو الحمقى ،أو المنفوخين بالهواء..شيئا خطأ أو تافهاً ، أو سلبيا أو ضاراً ، فتندفع جموع المنافقين والجهلاء من خاصته وشلته، لتأييده وتأكيد ما قال والثناء عليه ، عذراً..لا أستطيع أن أوقع على شيء خطأ أو شيء تافه ، أو ما يخالف قناعاتي ، كائناً من كان كاتبه ، لأنني ببساطة متناهية أحترم عقلي ونفسي..لنرفع شعار : “أنا أحترم عقلي ونفسي..إذن أنا إنسان” .

10- تنبيهات عروضية ونحوية ولغوية :

* ملاحظات عروضية :

كنت قبل سنوات نشرت منشوراً حول ملاحظات عروضية ، وها أنا أعيد التنبيه على بعض ما جاء فيه ، لكثرة الأخطاء التي أراها ، لعل أحداً يستفيد منه :

– لا يجوز استخدام تفعيلة العروض في المتدارك (فعْلن) والصواب (فعِلن).

– لا تستخدم تفعيلة (مفاعَلَتُنْ) الثالثة في الوافر تامة وإنما تتحول ل(فعولن).

– لا تستخدم في الكامل التام (متفاعلاتن) في الضرب

– لا تستخدم تفعيلة (فاعلاتن) في عروض الرمل تامة (فاعلاتن) وإنما (فَعِلا) أو (فاعلا) ولا عبرة بما ورد عند المتنبي في إحدى قصائده.

– لا تستخدم في الطويل تفعيلة (فعولن) إذا كان الضرب (مفاعي) ولكن الصواب (فعولُ) ولا عبرة بما ورد لدى امرئ القيس في إحدى قصائده ، أو كما أخطأ فيه-علي محمود طه-مثلاً.

– لا يصح الخلط بين (فاعلن) و (فعْلن) و (فعِلن) في المتدارك ، وتستخدم صورة واحدة منهما ، ويلتزم بها إما (فاعلن) وإما (فعْلن)..(فعِلن).

– لا تستخدم (فعولُ) في المتقارب قبل تفعيلتَيْ العروض والضرب المنتهيتين ب (فعو).

– في المتدارك..لم يستخدم القدماء (فاعِلُ ـ ب ب) معكوس (فعِلن) ، والمحدثون استخدموها كشوقي ونزار ، ولا أرى ضرراً في ذلك.

– القدماء في المتقارب لم يستخدموا في العروض إلا (فعو) ولم يستخدموا (فعولُ) و (فعولن)..المتنبي استخدمهما ، والمحدثون يستخدمون (فعولُ) و (فعولن) و(فعو) ، ولا أرى ضرراً في ذلك ، والأقوى والأجمل (فعو).

– يجوز في الكامل التام أن تكون تفعيلة الضرب (مُتُفاعِلَانْ ب ب ـ ب ــْ ) ولا تجوز (متفاعلاتن) إذ إنني لم أر لها شاهداً في كل شعر النابهين من قدماء ومحدثين ، وتجوز هذه فقط في مجزوء الكامل وليس في التام منه.

– لا يجوز استخدام تفعيلة (مُسْتَعِلُن) الفرعية من (مستفعلن) في الخفيف.

– هناك تفعيلة نادرة للرجز يغفل عنها الكثير من الناس وهي (مُتَعِلُنْ ب ب ب ـــ).

– لا تستخدم في الكامل-الأحذ- الذاهب من آخر تفعيلة فيه مقطع (عِلُنْ) في العروض (مُتْفَا…) ولكن تستخدم (مُتَفَا).

– يجوز في البسيط أن يكون الضرب (فعْلن) ولكن لا يجوز في العروض إلا (فعِلن).

– يجوز أن يكون في حشو البسيط قبل الضرب منه (مُتَفْعِلُنْ) فرعية (مستفعلن) وقد وجدت ذلك عند النابغة.

هذا ما تسعفني به الذاكرة الآن ، وربما أتذكر لاحقاً شيئاً فأضيفه ، ولكل شيء شرف-أعلى الشيء- وأشرف البحور ثلاثة…الخفيف والسريع والمنسرح.

* فائدتان :

– كثيراً ما يستخدم أصدقاؤنا هذا التعبير أو ما شابهه : القصيدة الغير جميلة ، الكتاب الغير جيد …إلخ ، والحقيقة أن ذلك لا يجوز ، فأل التعريف لا يمكن لها أن تدخل على كلمة غير وهي نكرة ، والصواب أن نقول : ” القصيدة غير الجميلة” و ” الكتاب غير الجيد ” وهكذا .

– كثيراً ما ألحظ أن أحبتنا وأصدقاءنا يكتبون الاسم الموصول للمثنى المذكر (اللذان ) ، أو المثنى المؤنث (اللتان ) ، والاسم الموصول للجمع المذكر (الذِين ) ، أو الجمع المؤنث (اللواتي) على هذا النحو: (الّذان ) (الّتان ) (اللذِين ) (الّواتي ) والصواب أن تكتب على النحو الأول الذي تقدم.

* فائدتان :

يؤلمني أن يقع كثير من أصدقائي في هذا الخطأ الُّلغَويّ لا سيما الدكاترة وكبار الكتاب والمثقفين :

– يقولون هذا أمرٌ مُلْفِتٌ للنظر والصواب “لافت للنظر” ليس هناك فعل “ألفت” هناك فعل “لَفَتَ” ، واسم الفاعل منه على وزن (فاعل) لأنه ثلاثي فنقول ” لافت” .

– النعت الواقع بعد المنادى المضاف لياء المتكلم مثل: “يا وطني الجريحَ” ، “يا وجهي الغريبَ ” أو ما شابهها ،كثير من الأحبة يرفعون (الجريحَ) (الغريبَ) فيضعون الضمة بدل الفتحة ، والحقيقة أنها نعت منصوب ؛ لأن المنادى المضاف حقه النصب بسبب الإضافة ، والنعت يتبع المنعوت في حركته الإعرابية.

* فوائد لغوية :

– “رمش” ليست فصيحة سليمة للدلالة على أشفار العين ، والفصيح السليم هو “هُدْبٌ” ، والجمع “أهداب” ، وفتَّشَ وإن كانت عربية فهي قبيحة وخير منها : “نَقَّبَ” و”بََحَثَ” ، ولا أدل على ذلك من التعبير القرآني قال تعالى: “فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ” ولم يقل : “يفتش” .

– يعتقد بعض الناس أن كلمة “غشيم” عامية لكثرة دورانها على ألسنة كبار السن حين يخاطبون أو يصفون بها الجهلاء وعديمي التجربة ، والحقيقة أنها فصيحة وسليمة وتعني بحسب المعجم الوسيط : “الجاهل بالأمور” .

– ثالثة الأثافي (الأثافي ومفردها أُثْفِيَّة في الأصل الحجارة التي يوضع عليها القِدْر ) والمقصود بها هنا جانب الجبل حين كانوا يضعون المرجل على حجرين ويجعلون الثالث جانب الجبل..أي أقواها ، ويصفون بثالثة الأثافي الرجل القوي الداهية.

شاهد أيضاً

شعر الوداد وشعر الغزل

شعر الوداد وشعر الغزل الطبيب نوري سراج الوائلي نيويورك   الشعرُ قلبُ اللغةِ، تقوده ويقودها، …

اترك تعليقاً