قصة : (……موعدٌ انفصاميّ…..) /بقلم : مسيرة سنان – اليمن

قصة : (..….موعدٌ انفصاميّ…..)

في قاعة كبيرة مستطيلة ذات جدران متشققة ، نوافذها نصف مغلقه .
على خشبة الأ داء المسرحي يقفُ بصمت ، متأملاً أسفل منه إلى تلك الكراسي الموزعة بإتقان .. 
يلتهما الفراغ ، لكنه رغم ذلك يحدق فيها كأنه يرى الوجوه التي كانت تتأمله ، كأنه يرى كل الملامح وهي تتغير بحسب أمزجةأصحابها حين كان يقوم “محمد” بأداء مسرحيته الاولى مع أقرانه ؛
يجلس على منصة المسرح ، متذكراً في زحمة الصمت ” خليل”
رفيق دربه ، توأم نبضه الذي لم يكف عن الخفق في صدره يوما ….
ينهضُ متحسسا بأطراف أصابعه قبلة على جبينه لم يزل تأثيرها باقياً ..

من أسفل القاعة ومن بين الكراسي المتراصة والمشبعة بالخواء يسمع صوت خليل وهو يقول: ..
-“يامحمد” لا تقف على خشبة المسرح هكذا ،
وكأنك طفل يخاف العتم..
ارفع يديك عالياً واجعل قدميك ثابتة على الأرض ،اغمض عينيك ، نعم ا غمضهما بقوة ، وتخيل أن البحر أمامك وثمةَ موجةٌ تقترب منك ،
اصرخ في وجهها حاول أن تدفعها بقوة،
لا لا بقوة …

يتقدم نحو الأمام مستشرفاً المقدمة ، محاولاً الوقوف مجدداً في ذلك المكان رافعاً ذراعيه مغمضاً عينيه بقوة ، قائلاً:

-إنها الموجة ، إنها تقترب ياخليل،
ها أنا أحاول دفعها بقوة
ااااااااااااااا​ه…

يتزحلق “محمد” يقع على الأرض ، يسحبه الحزن بقوة باتجاه ثقبٍ أسود مابينه وبين ذاكرته .
يفتح عينيه، وحاجباه مازالا كطائرين تداخلت اجنحتهما في بعضها.

تتحدر من جبينه حبات العرق تغسل في طريقها نحو خديه كلما يصادفها من غبار علق في مسامات وجهه المجهد..
أسنانه الأمامية أتت على شفته السفلى محكمةً قبضتها بسطوة الوجع ..
وجد نفسه ملقً أمام الكراسي الأمامية
يحملق فيها بعينين محمرتين غائرتين..

يستعد للوقوف مجدداً ممسكاً بما تبقى منه من ثبات ينفض الغبار عن بنطاله ، .يمرر أصابع كفيه في شعر رأسه باتجاه الخلف معيدا ترتيب مظهره.
يقف بثبات واضعاً يده اليمنى على صدره صارخا:

-لم تمت يا سر قوتي ،
ها أنا من جديد أقف
وسوف أبقى ماحييت واقفاً واقفا…

النوافذ النصف مغلقه وبحركة من الهواء القوي صارت مشرعة تماماً ، الرياح تعبث داخل القاعة ، تراقص الستائر ،تخفق كرايات تحملها الأكف الزكيه التى لاتتعب من طول التلويح “

ثمةَ أصوات تلهج في الشارع ، يتدحرج “محمد” خارج القاعة مخلفاً وراءه حفنة من ذكريات موقدة.
يفتح الباب راكضا ً باتجاه الشارع الخلفي..
كشمعة ترهقها الرياح العابثة بقسوة ، يقف مابين حقيقته وما بين غيبوبة وجعه…
واقفاً بين أمواج بشرية ،أطفالاً وشبابا ونساء. كَأَسْرَابِ الطيور النازحة يسدون الشارع بأكمله
أصواتهم ترتفع لتصعد نحو السماء وتخلق قدراً يليق بهم…

يعود “محمد للخلف خطوات، يفركُ عينيه بقوة، بأصابعه المرتعشة ، ثم يفتحهما لتتسعا لما يراه أمامه.
كان الذين يقفون في المقدمة يحملون لافتات مكتوب عليها “خليل” لن تموت وفينا قلوب تنبض”.

كأن الغيوم تساقطت على الأرصفة ، كأن الوجوه غدت سفناً مترعة بالرحيل ..
في الجانب الأخر يرى “محمد” نفسه واقفاً
ممسكاً بقميص “خليل ” رافعاً إياه ، يصدح بصوته :
-لن تموت ياخليل وفينا قلوب تنبض “..

يمدُ يديهِ محاولاً الإمساك بهم ، كلما مدها باتجاههم تحولوا إلى هواء .

يغطي وجهه بكفيهِ ، يثب على الأرض كحلم سقط من عزيمة .
مردداً برعشة صوته المخنوق وعيناه مغمضتان :

-خليل ، خليل ..

زبد لعابه يتطاير في الهواء ، يخرج لسانه ويحركها على شفتيه يبتلع ريقه بصعوبه .
ثم يفتح عينيه ، كليلة طالت ثم انفرج صبحها..
يقف مفزوعاً ، تلك الأمواج من البشر
اختفت فجأة.
غدا الشارع فارغاً، إلا من الرياح العابثة ،وكشك العم “علي” وخطوات تذهب وتجيء مترصدةً قدرها المفقود..

يرجع “محمد” للخلف خطوات ، يتلفتُ يمنةً ويسره ، يركض مسرعاً ، تاركاً قلبه في إسفلت الحي، منتظراً عودة خليل …

  • بقلم : مسيرة سنان – اليمن 

شاهد أيضاً

– ذات شاعرة – / بقلم : عناية أخضر – لبنان

  الشِعرُ حَالةٌ لَطِيفة لاَ تَعترِف بِالكَثِيف .. ومَع ذلِك فَإنَّها تُؤثِّرُ فيهِ وَبِعُمُق .. …