طوق الياسمين
قصة قصيرة
-حدٌثت صديقتي دوروثي عنك، تحبّ أن تراك..
هكذا بادرتني أختي في ثاني يوم لزيارتي لها في انگلترا، عام ١٩٩٣، تردّدت قليلاً، ولكنها أكّدت لي أن الزيارة ستكون قصيرة وللتعارف فقط مبدئيّاً.. وفي الطريق إليها، فاجأتني:
– زوجها توفي قبل أسبوع، هي وحيدة الآن ومكتئبة جداً .
امتعضت، واستدرت لأعود أدراجي؛ فأنا لا أطيق هذه المناسبات وأجدني ضائعةً لا أملك تعبيراً لائقاً وصادقاً أقوله، إلاّ في حالات نادرة تنطق دموعي قبل كلماتي.
الشقة صغيرة وأنيقة، على الطراز الإنگليزي، كل ما فيها يزفر قدماً؛ الكنبات الجلدية السوداء، الطاولة الوسطية غامقة اللون تتوسطها ڤازة كريستال جميلة تكتظّ بها ورود ملونة طازجة، لا رائحة لها. كلّ ما في الصالة يوحي بعقود مضت منذ أن احتوتها جدران الشقة الصغيرة، حتى ستائر الدانتيلا البيضاء وشت بعمرها.
استقبلتنا الأرملة المسنّة بأناقتها ومكياجها الخفيف، تذكّرت نساءنا والسواد يجلّلهن من الرأس حتى القدم.. صافحتني وعانقتني ببرودها الإنگليزي، والتصقت أنا بها بحرارة تعبيراً عن حزني. لم أجد ما أقوله سوى،” I’m sorry for your husband.”.. ابتسامة خفيفة علت وجهها وهي تشكرني..
أخذت نظراتي متلصّصةً، تجوب أرجاء الصالة الصغيرة.. پوسترات كبيرة تحتل الجدران الأربعة، يتربٌع بداخلها بزهوٍ وكبرياء كلب ضخم الحجم، وطوق جلديٌ بنيّ اللون يزيّن عنقه.. في مواجهتي منضدة عليها تلفاز صغير وتحته صورة أخرى للكلب الذي علمت أثناء الحديث، أن اسمه بوكسر، مسترخٍ بدلال، عيناه نصف مغمضتين..
بقي راداري يترصّد الجدران والسقف والزوايا، باحثاً عن صورة للزوج المرحوم الذي توفي قبل أسبوع.. هامسةً سألت أختي التي تجلس ملاصقةً لي:
– أين صورة المرحوم؟..
جاهدت أن تخفي ضحكتها:
– الجدار الضيّق خلف الباب، أمامك..
صوٌبت نظراتي إليه.. حائط لا يتجاوز عرضه ثلاثين سنتيمتراً، تختبيء فيه بخجل صورة صغيرة داخل إطارٍ غامق لشيخٍ ثمانيني، عيناه منطفئتان تقبعان تحت حاجبين كثّين، وفم غائر تحت شارب أبيض كثيف.
شهقت دهشةً، أعادتني إلى صوابي لكزة خفيفة من أختي التي كانت تتحدث مع صاحبتها، تشاغلها كي لا تنتبه إلى رحلة ذهولي!
لم أَجِد ما أواسي به العجوز الأرملة سوى ابتسامات بلهاء كاذبة. متبرّعةً انبرت دوروثي تقصّ علينا أحزانها وعيونها ملأى بالدموع عن مرض بوكسر الحبيب وأيامه الأخيرة.. نائماً في حضنها، لفظ أنفاسه، وأختي، منافقةً تطبطب على يدها برفق وتواسيها.. صوت غاضب، مستنكر هتف في صدري، ” وزوجك المسكين، كيف وأين لفظ أنفاسه الأخيرة…؟ “
شربنا قهوتنا مع قطع بسكويت صغيرة، وغادرنا..
انفجرت ضاحكةً ما أن استقبلنا الطريق، ولعنت أختي التي خدعتني ولم تذكر لي شيئاً عن المرحوم – بوكسر -.!
ارتدّت ذاكرتي إلى سنينٍ لا زلت أذكرها حين كنت صغيرة ألثغ ببعض الحروف..
خيرية، صديقة والدتي المقرّبة، شابّة لا تزال حين توفي زوجها.. فارعة الطول، لا تفارق الضحكة فمها، ظفائرها مجدولة بسواد ليلٍ حالك، تنسدل بغنجٍ حتى منتصف ظهرها.. صوتها شجيّ، تغني المواويل الجنوبية بعذوبةٍ يشوبها حزن دفين، لكن سرعان ما تكسرها بضحكةٍ مجلجلة، ذات رنين..
صغيرة كنت، لم ألتحق بالمدرسة بعد، تحتضنني وتضع في يدي قطع حلوى لذيذة، تقبّلني بحبّ دافئ،
“ستكونين عروساً جميلةً لابني، عماد.. لن يتزوجك غيره، أقسم ..”
لم أكن أدرك ما تعني، ولكن مذاق الحلوى اللذيذ شدّني إليها، فأحببتها وتعلّقت بها.. حلمها كان أن ترزق بنتاً تخفف عنها صخب ولدين شقيين يتصارعان، ويقذفان بعضهما بما تطاله أيديهما، لكن الزوج رحل دون سابق إنذار بسكتةٍ قلبية وأخذ معه أحلامها.. لم تذرف خيرية دمعة واحدة، ولم تتصدّر – كما العادة -، جلسات العزاء التي امتدّت اسبوعاً، ألقت طرحتها، قصّت ظفيرتيها الطويلتين وهامت على وجهها تجوب الشوارع.. تعود بعد غروب الشمس، تلاحقها اللعنات والإشاعات، تقضم قطعة خبز صغيرة، تحتضن صورة زوجها وتنام، تاركةً ولديها لجدتهما التي احدودب ظهرها حين هدّها الحزن والبكاء على وحيدها..
أمي هي الأخرى، أحسستُ بها حزينةً ساهمة، تسمع تعليقات لاذعة بحقّ صديقتها ولا تملك ردّاً غير، ” الله يساعدها، همها ما تشيله الجبال “..
قيل عنها أن لها عشيقاً تذهب إليه، وهذا ما فطر قلب زوجها حين علم، فمات قهراً، وقيل أنها أصيبت بالجنون.. وقيل.. وقيل..
في بحثها عنها، عثرت عليها أمي منزويةً إلى جانب قبر زوجها، وغصن متيبّس في يدها تخطّ به على التراب وجوهاً مشوّهة، جفلت مذعورةً حين رأت صديقتها، أرادت أن تهرب، لكن والدتي أمسكت بها بقوّة..
– تعالي معي إلى البيت..
وسحبتها.. نظرةٌ فارغة، فزعة صوّبتها نحو أمّي، محاولةً الانفلات من قبضتها القوية..
– إلى بيتي، ألا تشتاقين إلى خلود؟ تسأل عنك كثيراً، وتبكي..
ارتخت مقاومتها، ونظرةٌ حانية طفرت من عينيها..
– ستكون عروساً جميلةً لابنك عماد.. هل نسيتِ؟..
استكانت، وتراخت يداها المتشنجتان، وكالحمل الوديع سحبتها والدتي إلى بيتنا.. بلهفةٍ ركضت نحوها، احتضنت ساقيها الطويلتين أقبٌلهما، يدها مرتجفة امتدت نحوي، داعبت شعري، وابتسامةٌ مسروقة ارتسمت على شفتيها.. كحيوان مزّق الجوع أحشاءه، أكلت بشراهة، شاركتها الطعام وأنا أجلس في حضنها.
ضيفة دائميّة أصبحت، بل فرد من العائلة.. تحدٌثني عن ابنها عماد الذي يكبرني بأعوام، وأضحك جذلى وهي تقصٌ عليٌ كيف سأكون عروساً جميلة، وسوف تهديني بدلة عرسها وطوق ياسمين..
سألت أمي ببراءةٍ، يوماً..
– متى يا أمي أكون عروساً جميلةً لعماد؟
ضحكت..
ليس الآن يا حبيبتي.. لا زلتِ صغيرة..
– ولكن خالة خيرية تقول، بعد شهرٍ أو شهرين..
– إنها تمازحك..
– وطوق الياسمين ؟..
– سينتظرك يا صغيرتي..
ليلى عبدالواحد المرّاني