طبيعة اللغة الهادئة والممتدة في ديوان “الخسارات تهوّن على بعضها ” وتنامي السردية

طبيعة اللغة الهادئة والممتدة في ديوان “الخسارات تهوّن على بعضها ” وتنامي السردية

 

قراءة تحليلية : فريد النمر 

 

الديوان : ديوان من القطع الصغير 

العنوان : الخسارات تهون على بعضها 

المؤلف: رباب يوسف آل إسماعيل

الدار : بسطة حسن للنشر والتوزيع

الطبعة : الأولى 2021 م

النصوص :41 نصا

عدد الصفحات :100 صفحة 

توطئة :

سبق أن تعرضت لعدد كثير من الإصدارات الشعرية والتي دائمة ما أبحث فيها عما يميز ديوان شعري عن غيره من الدواوين المتفاوتة الصنعة واللغة والدهشة معتمدا أولا على تأويل الشخصية الشاعرة المشكلة للنصوص وبيئتها الخاصة

وكتوطئة بارة كان لابد لي أن أعرج من خلال هذا الديوان المعنون “الخسارات تهوّن على بعضها ” أن أدخل من بابه الخلفي الموصل لديوان أولي سابق للشاعرة رباب يوسف بعنوان “رسائل دوار الشمس ” والذي كان مكتوبا في إهدائه “ليوسف، والدي..وهو يدرز َ الجنة نخلات ويسيل َ أنهار العسل للعصافير”

ومن حارس البيت ذلك التي تبني العصافير أعشاشها مكان الرصاص والذي تقوله فيه :

وإني مثلك يا أبي /أحب البيت وأحرسه /في داخله وطن صغير/ لداخلنا الغريب 

يوسف هذا الرجل الذي كان أولمته الحياة بطبيعة المارد البحري ليقطع الحجارة من قاع البحر ليولمها للناس كلبنات لصناعة بيوتاتهم التي تأويهم وكمارد للصحراء وهو يخترق كثبانها الحارة اللافحة وهو يقدمها لذات الصنعة والمأوى يوسف هذا كانت له روح الحقل الوارف كنخلة خيرة معطاءة وعذبة وساكنة ومطمئنة في ذاتها صبورة وحميمية في طبيعتها الهادئة والطموحة ذات إيثار خاص فرغم قوته الهائلة أراد أن يكون الحقل الجميل الذي أحبه الناس في محيطه المتنوع الذي رآه رجل بقوم من الرجال لما يحمل من نفس شغوفة بالآخرين

ووكفاصلة هنا سيتسائل الكثير من الحضور في هذه العجالة ما العلاقة بين ذكر والد الشاعرة يوسف بالقراءة في ديوان الإبنة الشاعرة رباب 

أقول : أن الطبيعة البشرية التي خلقت الديوانان “رسائل لدوار الشمس “و”الخاسارت تهون على بعضها ” هي ذاتها روح الحقل المتنقلة في طبيعتها الكامنة بين الشخوص والقادرة على خلق العلاقة وتبيناتها الحياتية المدهشة والفاعلة وهي أيضا الشخصية القدوة التي تتسرب في اللاوعي لوعي النصوص في حكاياها الساردة والمتأملة لطبيعة المفارقات التي تؤرق هذه الطبيعة الوديعة لفقد عزيز واحد أو أكثر وترسم هذا الأفق الحزين والمنكسر والمتأمل والمغرم بالتفاصيل الكثيرة 

من هنا جاء ديوان الخسارات كمنعطف جديد يحمل بين نغمه موسيقى الأبواب والحدائق والملح ولهيب المطر ولذة العدم وكأنه جاء ليكمل الطريق الشعري من بوابة الراسائل لدوار الشمس والذي شكله الإلتباس ومزاح الريح كامتداد تترجمه مرساة الذاكرة والروح المتأملة حيث كانت للإعترافات نكهتهما المشتركة والأبواب تضج برائحة الطرق والذاكرة مشرعة  بتباينات الزمن والمكان الحميمي المزهر بدوار الشمس والمحتشد به كما يبدو في غلافه كقراءة سيميائية شاخصة بين أيدينا لهذا الحقل المتحرك

وها هي تقول بمدخل الديوان

لم أعد أستطيع أن أحدثك بلغة كما يتكلمها ملايين البشر وهذه النصوص التي كتبها رجال طيبون وامرأتان أو ثلاث كنجمات ساحرات لم تعد قادرة على بلوغ الزوايا البعيدة هناك 

 

لغة الديوان وفنية البناء الخاصة :

من مفردة الخسارات كعتبة قرائية في مدلولها الباعث على الخيبة ومن جملة تهوّن على بعضها نستشف حجم اللغة المتماهية مع الخسارات التي تجعل الشعر بوابة لهذا الإسترخاء الشعوري الهادئ في تبرمه اللحظي ولنلاحظ وللوهلة الأولى بأن هذه اللغة المبنية على التداعي ما هي الا محاكاة تملء فراغ الروح لتشغل حيز اللغة التي تنتمي لها روح الشعر التي تمنذج صورها بعاطفة حسية لا مفهومية تمتثل البوح كخريطة للحزن والفرح

وهنا تنتقل اللغة من عالم الجمل التعبيرية لعالم الفن العاطفي الشعري ببساطة التشكيل التركيبي السارد للنص سردا حرا تلعب الطبيعة فيه دور التمازج الشعوري الخلاق والذي لا يعدو حقيقة الشعور المتسرب من الذات الخائبة والمتطلعة للخلاص حيث تقول في نص اعتراف :

“هنا للغة باب خلفي للحياة /إذ رحب الصمت وضاق الكلام ” وهذا الإعتراف هو جوهر التغني والتأمل كإحالة للمثل الذائع إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب” وهذه التناصية تربطنا بالتقليد كجذر قوي وأصل يبني عليه الفن إبداعه الجمالي المحتمل 

ففي نص “سيرة الأبواب ” تقول مقدمة للنص 

ماذا تقول أبوابنا في الغياب ,هل تبحث عما يعلق في خشبها كضحكة طفل مع المقبض /أو قبلة أذنت للصبح أن يطلع 

ولتقول فيه: كلما فتحت باب عزلتي وجدتك خلفه 

كلما أغلقت بابي توحدت بك/ فمنذ عرفتك صارت تتهامس الأبواب/ باب قال جاء بالهوى …

وكأن الشاعرة تكمل سيرة الأبواب منذ نصها المعنون ب”باب” في رسائل دوار الشمس وهي تقول :

ها أنا أمضي إليك خفيفة كظل /مخفية كفكرة ملعونة

ها أنا على بابك أبحث عني لديك أمضي إليك في درب يابس وأنت تمضي..

أغلق وراءك الباب بهدوء مشاعر غافية

وكأن الكشف الحسي يجتاز في تعبيره من تراص شعوري لآخر تتفوق فيه الأنا المتكلمة عن ذاتها بمفاتيحيها التي تألف وتحاور وتتغنى لتذلل للمتأمل ماهية هذا الشعور الأمتدادي التي يرتاد المخيلة من معايير اللحظة المختمرة في النفس الشعرية كراو أساسي

وليفاجئنا نص “دقيق” في هذه المجموعة بفلسفة الحياة الوجودية الكبرى ومطاحنها والعبارات تسيل وتتدفق من الكيس في تسائل عن كنه الصلصال والآدمية التي خلقت عجينة القهر والدموع 

وهذه المقاربة بين الطين الآدمي والدقيق المتشكل عجينا صرفا تدعونا الشاعرة مرة أخرى أن نقرأ النص البسيط في تعبيره الآدمي بحساسية محتواه الفعلي المختبئ خلف مجازاته والرابط الثقافي العميق الذي يكمن وراء النص 

وحقيقة وجدت الكثير من هذه اللعب الفنية اللغوية الأنيقة والإشتغالات وهي تمارس هوايتها اللفظية والشعورية السهلة في تركيبها الممتع لتخبرنا عن معنويتها المرتفعة وصوتها الهادئ الذي يعتمد على الإشارة والإحالة لا الصورة المكثفة للمجاز 

الإكتناز الشعري الممتد والمخيلة 

كثيرا ما يختبأ الشعر تحت طيات القلب المتعطش لفضح الأسرار النائمة فيه مجردا لعملية التفكير والمجنح نحو ارهاصات الشعور التخيلي الذي تحتمله العاطفة الإيحاية فمثلا نفضح الرحيل بالحنين والهجربجفاف الروح والشوق بالرغبة والشك بالحيرة ..وهكذا ليظل السؤال الشعري صامدا في الإمتداد الأشبه بأنفاس متقطعة تزاول مطافها الفلسفي عبر هيولات القلق الناجمة عن سطوة الإيمان بالقدر كخيار حتمي ولأن طبيعة القلب طبيعة استرخائية تكتنز الصورة في مخيال اللغة تفضي هذه الطبيعة القلبية بذكاء للتلميح البعيد والمدهش المفاجئ والبديهي المبتكر لتعدد المعنى وقد أجادت الشاعر باكتنازها اللغوي ومهارتها في الصياغة للجملة الشعرية من مزاوجة كل هذا المختبئ القلبي ليكون مادة حية في النص تشير لها القصيدة باقتدار ففي نصها تتمتمات الحكايا /وشم يوسف وهي تحاكي روحه التي حلقت في أيلول وللصبر الذي شذبها به كالنخيل تقول:

بين أهداب طيفك لحقت الوميض/أفتش عنك تمتمة لحكاية علقت على مشجب الوقت عن ترانيم موالك البحري ,ملح نوايا على قارعة جرحك مازال يضيء مباركة زيتونة غبنك اليسرج كحل الليل ليتقدس كبرياء الوجع

وتقول في نص جائع أبدي :

لماذا تقضم الأحزان وليمتها على مهل ماذا لو ابتلعت زادها سريعا وتركت موائد أعمارنا لسواها

من هذا الاشعال والاكتناز الشعري تتدفق المخيلة بالإيعاز لمحفزاتها الموجبة للنسيان المعرفي للإسترسال في فرضية السؤال الشعري عبر علاقة اللغة العذبة وسيولتها وعبر الإمتلاء العاطفي في نزعته المطردة الخلاقة للنص كاستنطاق للوجع والقهر والحب بهدوء 

وعندما تقف على نص” الخسارات تهون على بعضها “تجدد هذه المفارقة لمفردة القهر المحاكى والذي تعدد أياديه الكثيرة تخبره بجهله وهي تقول بأن الخسارات تهون على بعضها هي ذاتها المفردة التي  اختمت به ديوانها الأول رسائل دوار الشمس ليكون ثيمتها في مجموعتها الخسارت كإمتداد شعوري يغذي التجربة الهادئة في كينونتها 

والذي قالت فيه  : وقبل أن يمضي قال وأنت ترتب النور للصباح  ارم لي رذاذا يعين عماي كما رتبت رتبت هذا القهر

النزعة الإنسانية  والجمال كخلاصة 

يقول الشاعر العملاق فرناندو بيسو  في رؤيته 

“في قلبي كرب مسالم وهدوئي مصنوع من استسلام / مباركون أولئك الذين يعهدون بحياتهم للا أحد

وعند تأملنا لتجربة إنسانية شعرية ما علينا أن ندقق مليا في فناراتها من مدياتها الجمالية كتأمل خارجي يلازم طبيعة الشعر وفاعليته المتجذرة بطبيعته ولغته كثيمة تدور حولها النصوص في تعاطيها الشعوري المجسد ليقظة الإحساس فيها فمثلا الخلاص والحرية والحزن والسعادة واليأس والأمل دوافع مهمة تغري الروح الشاعر بالتلبس بها أو ببعضها لتشعل فتيلة الفنية والمعنى في عوالم النص وترفده بالعلاقة الناشئة عبر سيقاتها التي تعزز هذه الروح الشعرية بشكلها الجمالي لا المفهومي الفاقع وهنا نجد إضاءة الشاعرة ومعالجتها للنص تندرج تحت مفهوم التعدي الحسي لخلق مفارقة تفيد ذات الثيمة الموحية بوعي يتساوق مع تفسيره للكلمات الرومنسية منها الحنينية والشوقية والخيبات أو الخسارات التي تهون على بعضها ففي نصها “تتصدع بالشوق تزهر بالعتب ” تقدم لنفسها أن حطب كثير ظننت يوما أنني شجرة فأخذتني النار بسوء ظني لتقول:

رغم كل الأبواب التي صفقت أمامي مازال قلبي يخفق عند كل يد تقترب من المقبض 

لتتعدد هذه الأيدي حتى أيدي الأعداء وهي تنفض الحسد كلما همت بالخروج إلى أن تقول :

مرة توقفت عن البكاء ركضت خلفي وجدت الحنين أيضا طفلا وحيدا مثلي كلما ملّ رسم للشجرة وجها 

وهكذا تتكرر هذا التشكلات الإنسانية في نصها جيوب المتمثلة بجيوب ملابس أمها الكثير لتتعدد الجيوب التي على جسدها حتي تقول.. وآخر لأمور مؤجلة تلك التي تتعثر بها على الدوام وصولا لجيب الشعر التي تتسلل منه الأشياء للموسيقى 

وإننا هنا نقف على كشف يتعلق بالسمات النسوية في المستويات الشعرية الأنثوية وهي ترسل رموزها الخاصة بلغتها الخاصة وقصديتها لتبرز هذه الكينونة الذاتية على نحو تعبيري قادر على الإضاءة من خلال جنسها بوعي شعري عالي التعبيريمثل استقلالها الإبداعي ورؤيتها الشعرية المعاصرة بشكلها الحديث والمثقف البارع بكل أريحية وجمال أثيري

فهنا أدعوا القارئ الكريم للتأمل بلثغة الفقد وأجراس القلق وكنشيرتو العاصفة ومقعد لظلي وغيرها من النصوص التي تجنح بروحها نحو أفق الشعر الذي يختار فعله الشعري دون إملاء يتصرف بالنص وبقوامه الشعري اللافت والجذاب والمدهش دون تقرير أو مباشرة

شاهد أيضاً

حشيدة الوجوه و الامكنة في رواية (مرايا الروح) للكاتب ؛محمود الحرشاني قراءة في الرواية بقلم الكاتب محفوظ الزعيبي

مرايا الروح- الرواية الجديدة للصحفي الأديب محمود الحرشاني..عدد صفحاتها126 من الحجم المتوسط..تشتمل على 26 فصلا …