الإستطلاع
مقدمة
تشكل الروحانيات أحد أهم مكونات الأدب منذ نشأته ، ذلك أنها تشير إلى الطبيعة الإنسانية في ارتباطها بالوجود من حولها ، وظهرت الروحانيات في الأدب بأشكال عديدة لعل أشهرها وأكثرها تأثيرا الاتجاه الصوفي الذي وجد أصداءه في الثقافات المتنوعة واتخذ من أعلام التصوف كالسهر وردي وابن عربي والحلاج نماذج عليا لدرجة أن يقول أبيرجاني (يلهم جمال النشوة والنعمة العاطفية لشعر الرومي قلوب البشر للإيمان بإمكانيات تتجاوز ما يمكن توقعه من الموت) وأهمية هذا الاتجاه في الشعر تكمن في أنه يلامس ماهية الشعر التأملية في ذاتها كما يقول شفيق النوباني
ويقول الشاعر والباحث غازي الذيبة (أن الأدب فعل روحاني خالص، لا يمكن أن ينتج دون أن تتجلى في جوانياته خلاصات روحانية، تأخذه إلى مناطق شفيفة، تجعله بعيدا عن اليومي والعادي والسائد، صافيا، يجوب مناطق عالية من الوعي والحلم، وتجعله يهجس بالإنسان ولواعجه).
وترى الأديبة أميمة الناصر، (أن الأدب الصوفي ينطلق من ثقافة إنسانية عامة ، ذلك أن الإنسان وفي الغالب بتأثير الديانات المختلفة، ظل يسعى نحو حياة روحانية صافية، متحررة من الشوائب المادية ومتع الحياة العديدة وصولا إلى صفاء ذهني وروحاني يحقق للفرد التوازن النفسي الذي يستطيع أن يواجه به تعقيدات الحياة).
أمّا الشاعر والناقد مهدي نصير فيرى (أنّ الروحانيات هي القيم والمُثُل العليا للإنسان، وهي خزَّانُ الأخلاق النبيلة وخزَّان التاريخ النبيل) .
وتعرف الكاتبة كارولين ميس الروحانية (على أنها طريق مختار لتنمية العلاقات الحميمة مع الله).
ونحن بدورنا في مجلة أقلام عربية نتناول هذا الفن الأصيل من خلال السؤال التالي الذي طرحناه على مجموعة من أبرز الشعراء والكتاب العرب (هل للأدب الروحاني حضوره اليوم بعيدا عن المناسباتية؟ وما هي فضاءات ومستقبل هذا الحضور؟
وقد قدّم المشاركون في هذا الاستطلاع رؤى واطروحات وازنة ومتعددة وجميلة .
——————
د. علاء جانب : لقد تحولت كتابة القصيدة في العقود الثلاثة الأخيرة إلى محاريب صلاة
أولا كلمة الأدب الروحاني فضفاضة من حيث دلالتها فالحقّ أن غالب مجالات الأدب -لا سيما الشعر – تتسم بالروحانية ..
فالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية والمقال كل ذلك نتاج عقول تفكر وأرواح ترى و قلوب تشعر ..
ولكن لعل استطلاعكم عن المجالات المتصلة بالعقائد والأديان والشعائر ..
وإن كان ذلك كذلك فلا يمكن أن تكون الأرواح نائمة ثم تستيقظ فجأة في رمضان أو ذي الحجة أو ربيع الأول ..
إن الأرواح المتعلقة بشيء لا تستطيع مفارقته ؛ بل إننا نجد لذلك أثرا عليها طول العام ..
وهل كان شعر بني عذرة الغزلين إلا نتاج أرواح متحرقة شوقاً انسحب الإيمان في شعرها حتى على الغزل والنسيب ؟!
لقد تحولت كتابة القصيدة في العقود الثلاثة الأخيرة إلى محاريب صلاة أو أويقات تسابيح ..
العقيدة مثل الصبغة التي تصبغ الروح بصبغتها وما أجمل التعبير القرآني “صبغة الله ” فالأدب الروحي قائم ومبثوث في تضاعيف كل قصيدة ونص أبي ..
ونحن المسلمين نستحضر طوال العام ذات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.. وفي كل صلاة نستحضر كل عباداتنا وشعائرنا فنحن في الصلوات الخمس لا نأكل أو نشرب فنحن في صوم
وكذلك نستقبل الكعبة فنحن في حج
ونصلي على النبي في التشهد الأخير وجوبا فنحن في ذكر
وندعو في سجودنا ونسبح في الركوع والسجود ..
فنحن في حال اتصال دائم .. فكيف تخلو قصائدنا من أرواحنا ..
إن كلمة المناسباتية اشتملت على إرهاب يخوف بها الحداثيون المحافظين ليثنوهم عن أغراضهم الأصيلة من مديح وغزل ورثاء وغيرها .. لذلك كادت تختفي مثلا قصائد المدح وذكرى الانتصارات العظيمة خوفا من أن يقال عنها: قصائد مناسبات ..
الأدب الروحاني موجود ما دام هناك أرواح تكتب …
——-
بدرية البدري : الشاعر أحيانا يشعر بحاجته إلى التوحد مع خالقه
الأدب الروحاني حاضر في كل وقت، ولكنه يبرز أكثر في المناسبات الروحانية كرمضان، والمولد النبوي، وذكرى الإسراء والمعراج، لما لهذه المناسبات من خصوصية روحانية تتفرّد بها، ولكن الشاعر أحيانا يشعر بحاجته إلى التوحد مع خالقه، والتقرب إليه؛ فيأتي هذا التقرب على شكل قصيدة لا مناسبة لها إلا حاجة الشاعر للطاقة التي تبعثها بداخله،
كذلك المسابقات وأميّز منها ما هو متعلق بالروحانية، كجائزة كتارا لشاعر الرسول أعدها فرصة عظيمة للشاعر لكتابة قصيدة فارقة، قصيدة لا تحمل مشاعره فحسب، بل يبرز من خلالها جمال الشعر حين يقترن بذات الحبيب عليه الصلاة والسلام، كما تمكنه من بث رسائله الإنسانية المستقاة من سيرة المصطفى، لدرجة أنه في لحظة – وهنا أصف احساسي – يشعر بأنه لا يدري أيهب الموصوف شعرا أم يستقي من وصفه الشعر.
ياربُّ جئتُكُ والزلاتُ تعصفُ بي
لكنك اللهُ رحمنٌ وتوّابُ
تعفو وعفوك لا تثنيه معصيةٌ
فكيف بالحبِّ إن ناجاك أوّابُ
——————-
سيد أحمد العلوي : الشاعر متأملٌ يعيش في قلق وجودي مستمر
الشعر في بعده الشعوري لا يختار شكله، إنما يتشكل الانفعال الداخلي والوجداني وفقا للحظة تفجّر المشاعر التي تختزلها التجربة الإنسانية. يحدث هذا كثيرا في الشعر العرفاني ( المتعالي ) الذي يأخذ من ( الحكمة المتعالية ) جسرا لعبور الذات تاركا وراءه اعتبارات الشكل الضيقة.
اليوم .. مع تشبث الإنسان المعاصر بالمادة ، يميل كوكبة ليست بالقليلة من الفنانين والشعراء لتجربة الشعر الروحاني المتجرد، لأن الشاعر متأملٌ يعيش في قلق وجودي مستمر يدفعه لقبول خوض معركة دائمة مع الصوت الداخلي والأنا المختبئة خلف القفص الصدري.
هذا النوع من الشعر لا يتحصل لكل شاعر، لأنه يتطلب نوعا خاصا من المعرفة، وتخليقاً مكثفاً يتجاوز المعاني النمطية.
اليوم، تقرأ مقاربات كثيرة في الشعر المدائحي والنبوي في المحافل والمناسبات الدينية وكذلك المسابقات الشعرية النبوية، إلا إن كثيرا من هذه الأشعار والقصائد تفتقر إلى العمق الخلّاق الذي يهز أشجار الروح موائماً بين رهافة المفردة و عمق الفكرة وكثافة الصورة.
كثير من التجارب الشبابية تحاول أن تسلك هذا المسلك إلا أن التحدي كبير أمام كسر النمط السائد وتجاوز تقليد الشعراء أصحاب المدارس المتفردة، أضف لذلك شح المكتبة الأدبية من الدواوين المتخصصة في هذا النوع من الشعر والتي تمثل رافدا مهما لإثراء التجارب.
كل ذلك، يجعل حضور الشعر الروحاني خجولا في المشهد الأدبي ومتوارياً عن الأنظار. والشاعر بوصفه خالقا للمعنى وصانعا للمبنى ، متى ما ضاقت عليه العبارة الشفيفة التي ترق لها الروح المتأملة ، هرب لغيرها من أغراض الكلام المتنوعة.
بقدر ما ينصهر الشاعر في ماهية وجوده الخالص ، بقدر ما يكتب شعراً عاليا يمس شغاف القلوب ويفتح شبابيك الروح.
——————————
ابتهال تريتر : المتابع للمشهد العرفاني يجده متكئا إما على التراث العرفاني أو على الأدب الشعبي
الأدب مسارح وتجليات مختلفة وهو معرض في كل أجناسه للازدهار والخفوت ولكن من بعد بيات طال عهده في عقود ماضية انشغل الناس فيها بأحداث ساخنة في العالم الإسلامي كالقضية الفلسطينية وثورات التحرر والعولمة ومابعدها والربيع العربي على تباعد الحقب الزمنية وندرة الأدب العرفاني كظاهرة إلا أنه في الآونة الأخيرة طغى هذه الأدب الرفيع على المشهد بفضل المسابقات الرفيعة التي أفلحت في قصدها وهي إنعاش فن المديح والإنشاد وربط الشعراء بإرثهم الديني الذي ضغطته عناصر وعوامل متنوعة كادت أن تمحوه من خريطة الأدب
والمتابع للمشهد العرفاني يجده متكئا إما على التراث العرفاني لعصور فائتة أو على الأدب الشعبي وهو أكثر تفوقا خاصة في السودان وبلدان التصوف المختلفة لأنها تجعل من المولد النبوي الشريف مادة جيدة لقراءة السيرة وهذه مواسم ثابته منذ ١٥عاما تقريباوعليها نهضت قنوات متخصصة في هذا الضرب كقناة ساهور والقمر الهاشمي وإذاعة الكوثر وغيرها فهذا أنتج أدبا روحياشعبيا ضخما تفوق على الفصيح بشكل ملحوظ
كتارا وشاعر الرسول ومسابقات العتبات الراتبة في العراق وأمير البيان في لبنان مسابقات استفزت أقلام الشعراء العرب وجعلتهم يتفرسون تجاربهم التي انغمست في الذاتية كثيرا وجعلت كل شاعر أمام مرآة يتحسس موضوعاته تجاه قضاياه وحساسياته المفتوحة على كثير
سبقت كل هذه البرامج رابطة الأدب الإسلامي وأحدثت نقلة نوعية ولكنها على جمال تجربتها انحصرت وقيدتها ايدولوجيات ولوجستيات محددة لكنها لفتت أنظار العالم لهذا الأدب الثر الذي له في التراث والحاضر والمستقبل ماله
عن مستقبل الحضور أقول إن نهضة الأدب بشكل عام تحتاج لتثبيت المنصات لجعل هذا النمط راسخا وينتظر انعكاس نتاجه مجتمعيا وحتى على مستوى المقررات الدراسية التي يجب أن تلتفت بشكل خاص لهذا الجانب في حصتها وباقتها وربما يبعد عن الرصد الأدب العرفاني في البلدان الناطقة بغير العربية فهناك اهتمام كبير لم تركز عليه الأضواء في آسيا وأفريقيا وهذا ينبغي الالتفات له دراسة ونقدا وربما في هذه البلدان يتكثف الاهتمام بالأدب الروحاني لأنه البوابة الأقرب لعالم ينشدونه والفتوحات الإسلامية لم تزل ببريقها في قلوبهم بشكل دائم حتى هذا اليوم والإسلام ومتابعة لكتابات الشعراء الأفارقة والآسيوين في الأدب النبوي على تقليديتها لكنها مشحونة بمحبة وثبات عجيبين وتابعت كذلك الدراسات النقدية التي أجريت على بعضها وهذا له مابعده
—————
معبِّر النهاري : الشعر الروحاني طقس يصعد بالشعر إلى ملكوت أعلى
الإنسان مؤمن بالفطرة مهما تجاذبته الظروف المحيطة به والأدب الروحاني خالد مع الإنسان سواء في الشعر أو في الأدب أو في النص القرآني والسنة النبوية
أما بالنسبة للشعر الروحاني فهو طقس يصعد بالشعر إلى ملكوت أعلى ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت : أن الأدب والابداع فيوض ربانية فكلما اقترب الانسان من الله فاض عليه بالصفاء والنقاء الوجداني والسلام النفسي الذي قد يتحول إلى نعمة ابداعية
والنص الروحاني حاضر بكل بهاء في كل مناسبة وفي كل طقس
هَذَا مَقَامُ الْعَائِدينَ لِوِرْدِهِمْ
الْحَائِمِينَ عَلَى رَحِيقِ جَنَاهُ
هَذَا هُنَا (جِبْرِيلُ) يَحْرُسُ بَابَهُ
وَهُنَاكَ (مِيكَائيلُ) حَوْلَ شَذَاهُ
دَعْنِي أُمَسْجِدُ فِي ذُرَاهُ مَشَاعِرِي
مَا بَيْنَ مِنْبَرِهِ إِلَى مَأْوَاهُ
عَلَّقْتُ فِي مَسْرَى (الْعَقِيقِ) تَلَهُّفِيْ
وَنَسَجْتُ قَلْبِي فِي صَلَاةِ هَوَاهُ
لَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ الْحَنَانَ وَلَا دَرَوْا
أَنَّ التَّسَامُحَ فِي الْحَيَاةِ هُدَاه
——————
أحمد المعرسي : القصيدة الروحية قلب صادق، ولغة حذرة، ومقام للدمع
أعتقد أن الأدب الروحاني ما زال حاضرا؛ ولكن هذا الحضور يأخذ مسارين مختلفين، أحدهما : يقوم على جهود الأفراد الذين يكتبون القصائد الروحية رغبة في الكتابة، ويسكبون فيها أرواحهم.. والآخر: حضور منظم تقوم به جهات رسمية تريد أن تسجل حضورا ثقافيا من خلال توجيه المشهد الثقافي نحو الكتابة الروحية، وذلك بتنظيم بعض المسابقات؛ إلا أن هذه الجهات في الغالب لديها سياساتها المسبقة.. فمسار القصائد التي تقبلها واحد، والسبب يعود إلى أن المحكمين في تلك المسابقات يحكمهم الحس العقائدي الرافض لمن يخالفهم في توجهاتهم الدينية.. بالإضافة إلى رغبة الجهات المنظمة في تقاسم الدول المشاركة للمراكز الأولى.
كما أنه من الإنصاف القول: أن السنوات الأخيرة احتفت بالقصيدة الروحية.. وإن كان احتفاء مؤدلجا، إلا أنني أؤمن أن هذا الاهتمام سوف يشجع المشهد الشعري على الكتابة في هذا المجال.. وسوف تظهر أصوات شعرية تكتب القصيدة المشتعلة بالروح، فالقصيدة الروحية قلب صادق، ولغة حذرة، ومقام للدمع يسجد فيه القلب.. وليست خيالا مشتتا، وصورا عقيمة، وقصائد بلاستيكية لا روح فيها
أتخيفني بالنارِ؟ لستُ بخائفٍ
فأنا ببابِ المنعمِ التوابِ
خوفي بأن ألقى الرحيمَ معاتباً
إنَّ العتابَ جهنمُ الأحبابِ
أعد الاستطلاع الشاعر/ علي النهام