حين تولد القصيدة تولد علاقة ثلاثية الأبعاد / بقلم : رينا يحيى ( ريحانة آزال )
ياسين عرعار ( أبو سجى )
20 يوليو, 2019
مقالات
479 زيارة
حين تولد القصيدة تولد علاقة ثلاثية الأبعاد
بين الشاعر .والقصيدة . والقاريء ..
* فالشاعر هو صانعها ومرسلها و حين يكتبها فإنه يشحذ كل جوانحه ومهاراته لإيصال ما يرغب بإيصاله والتعبير عنه كما يجده في ذاته .
قديما قيل ” إن المعنى في بطن الشاعر ” بالنسبة لي أراها مقولة متآكلة فلو أراد الشاعر أن يحتفظ بالمعنى في بطنه ما باح به وتفنن في بوحه ، ألم يقل المتنبي قبل قرون ” أبن جني أعلم بشعري مني ” فهذه المقولة تدحض الأولى تماما .فالمعنى يخرج من بطن الشاعر بمجرد أن يبصر النص النور .
* و القصيدة هي الرسالة ذاتها ، والمغزى المراد إيصاله إلى الجمهور و بمجرد تحولها إلى ألفاظ مسموعة أو مكتوبة تخصع لقانون اللفظ والمعنى وقدميز ابن قتيبة بين أربعةِ أقسامٍ من الشعر – انطلاقًا من ثنائية اللفظ والمعنى – هي:
• ضربٌ منه حسُن لفظه وجاد معناه.
• ضربٌ منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتَّشته لم تجد فائدةً في المعنى.
• ضربٌ منه جاد معناه وقَصُرتْ ألفاظُهُ عنه.
• ضربٌ منه تأخَّر معناه وتأخر لفظه
ويتحكم في ذلك قدرات الشاعر ومستوى الوسط الأدبي
* القارئ فهو المستهدف بالرسالة وهو المر آة التي سينعكس عليها النص و يتأثر بها سلبا أو إيجابا من خلال نظرته لمعنى القصيدة معتمدا على ثقافته و شعوره و كل مايمكن أن يصل إليه تأثير القصيدة .
فقد ينظر قارئ إلى قصيدة غزلية بأنها قمة في الإبداع بينما يرى الآخر أنها لاتخدم قضية بل تهدم و تتعدد الرؤى باختلاف أصناف القراء .
بينما تتفق كلها على أن النص الجميل يترك الأثر الجميل في نفس القارىء .
ومن القصائد التي تنبض بالجمال والشاعرية تلك التي تألقت في ديوان ( لا هدهد اليوم ) فهنا تؤمن فعلا أن الشعر ما أشعرك ، لأنه ديوان دفاق بالمشاعر التي تحلق في فضاءات القصيدة ..
في كتاب من القطع المتوسط ضم ست وعشرين قصيدة مكتوبة على 236 صفحة تطالعنا القصائد بين أغلبية عمودية اعتمد في أغلبها على البحور الطويلة الصافية و المختلطة
و أقلية من قصائد التفعيلة .
وهذا إنما يدل على قدرة وتمكن حيث يتجنب الكثيرون البحور الطويلة وخصوصا ما كانت تفاعيله مختلطة كالطويل والبسيط .
و ابتداء من العنوان الذي هو في الأساس عنوان لقصيدة في الديوان سنعرج عليها لاحقا تجد لا النافية للجنس و اسم لا (هدهد ) ومعروفة قصة الهدهد في التاريخ اليمني ومذكورة في القرآن حيث كان السبب في هداية قوم سبأ و دخولهم ديانة التوحيد مع النبي سليمان .
و قدجعل الشاعر الهدهد نكرة ليعم الحكم على جميع جنس الهدهد حيث يقدر خبر (لا) بالكون العام ( موجود أو كائن ) ويلحقهابظرف الزمان ( اليوم ) الذي خصصه بالحاضر وليس الماضي أو المستقبل .
ولعل العنوان المعتمد على المنصوبات نحويا يوصلنا إلى فكرة المتأثر وليس المؤثر وهو حال الأمة التي فقدت قوة التأثير واكتفت بوضع المتأثر .
تتنوع القصائد بين الوطنيات والعاطفيات والإخوانيات بأسلوب رومانسي عذب بعيدا عن النرجسية و تمجيد الذات .
وبالنظر الفاحص إلى الديوان تستطيع أن تستقي من عدة دراسات ذات زخم نقدي وفير فللزمان والمكان أثرهما في كثير من القصائد ناهيك عن الوطن و المرأة و الطفولة و الطبيعة .
فقد تناول تلك الموضوعات واضعا بصمته وأثره في النص فهو الوطني الحر المحب لوطنه برغم البعد والألم وهو العاشق المحب بعيدا عن الابتذال في المشاعر أو تعدد المحبوبات . وللطفولة حظها حين يعرضها وما تتعرض له من مهالك جاءت بها الحرب .مرتكزا على صور اشتقها من الطبيعة التي عاشها في اليمن و مصر ..
….
يا وقت مابك ؟!.. ما أشرعت اجنحتي
إلا بسطت يد البلوى لتكسرها
الأرض أفعى وفي جنبي قافلة
وردية ، كيف أنساني لأعبرها
مذ رتل الماء عشبي والدروب بلا
عطر سواي كفاني الله آخرها ….
ما هو الوقت الذي يخاطبه الشاعر مستنكرا بشده
، و يفسر استنكاره بكسر اجنحته كلما حاول التحليق .. مستخدما ألمقدمة والنتيجة بأفعال لها دلالة الاستمرارية .
ويربط بين فعل الزمان و السبب الموجود في المكان مفسرا رغبته في التحليق ( الأرض أفعى ) وهذا يجعل رغبته فى الانطلاق أقوى وأشد إلحاحا كردة فعل للهروب من واقع قاتل يستوجب الابتعاد عنه.
( وفي جنبي قافلة وردية ) لم يقل وردة بل قافلة وردية لأن القافلة فيها تنوع اكثر و تخصيص اللون الوردي للتعبير عن الحب الكبير الذي في قلبه هذا الحب هو كينونته فعبور الأفعى لايكون إلا بنسيان الحب الذي هونفسه الشاعر …
الضمائر في هذه الافتتاحية تعود اغلبها على شاعرنا .. اجنحتي .، جنبي ، أنساني ، عشبي ، سواي ، كفاني ) لتعبر عن رومانسية عميقة في النص ..
( مذ رتل الماء عشبي ) وهنا أستعارة الترتيل للماء فهل الماء قادر على الترتيل … وهذه صورة تستفز الخيال السمعي فالماء له صوت مع العشب و عادة يكون ذلك ماء المطر خصوصا إنه جعل الدروب تفوح بالمطر ألذي هو نفسه الشاعر ليختتم افتتاحيته بجملة اعتراض دعائية كفاني الله آخرها(الدروب)
وإلى قصيدة ( لا هدهد اليوم ) كنموذج من قصائد ديوان الشاعر أحمد الجهمي أحلق قارئة لأبياتها الثمانية عشر و بحرها الكامل بقافية أالألف اللينة والميم المفتوحة مع الميم المضمومة ، قافية تشعرك بالحديث عن غائب باستخدام ضمير الغائب ..
في القصيدة عدة تقنيات تمكن منها الشاعر ليأخذنا معه في خطوط من التوازي البديع في عدة حلقات مترابطة ( وطن … بلقيس … سد .. الفأر )
وطن أقام على الرصيف خيامه .
في البيت الأول و من الكلمة الأولى اختار الوطن مجردا من التعريف و اعتمد في تعريفه بالجملة التالية ( أقام على الرصيف خيامه ) الانزياح في هذه الجملة كبير بين المعنى القريب الذي يتبادر للذهن أن الشاعر قد يقصد خيام النازحين او اللاجئين باعتبار حالة الحرب التي يعاني منها .بينما الإشارة هنا هي إلى خيام 21 فبراير حين نزل الشباب إلى الساحات وأقاموا الخيام في الشوارع وعلى الأرصفة لعام كامل ، نظرا للمعادل الموضوعي في الشطر الثاني من البيت ( وتلا على وجه السما أحلامه )
وطن يحوك سنا الرؤى وهو الذي
مازال يلبس كالشريد ظلامه
ويستمر في تنكير الوطن معرفا إياه بجملة تصف حاله بالذي ينسج الأحلام وهو في الحزن والمعاناة
بلقيس .. والمعنى يجف وليته
يهمي فقد أدمى الجفاف حمامه
ينادي الشاعر ملكة سبأ نداء القريب بدون ألقاب او ادوات نداء وقد يكون ذلك لقربها وسكناها في القلوب أو لهول الفاجعة التي تلهي عن التزام الرسميات فالمعنى يجف إلى ان يدمي حمائمه .مذكرا بفاجعة الجفاف التي تلت انهيار سد مأرب وما ترتب عليها من انهيار الدولة .
ويتساءل في حسرة وألم :
هل كان سد الجنتين يظن أن
سهيل يحني في الشدائد هامه
مستخدما الرموز التاريخية . فأرض الجنتين للإشارة إلى فترة الرخاء التي كانت بأرض السعيدة وسهيل نجم اليمن المشهور .. إشارة إلى الهامات التي طاولت عنان السماء إلى حد النجوم فهل تنحني تلك الهامة بسبب الشدائد ؟ !
وينتقل من الإنشاء إلى الخبر في الدائرة الثالثة وهي السد .
سد يذيب حشا الفيافي خلفه
ويبث أنسام الربيع أمامه
وحداة جنته هناك يفتقون
فم المدى ويطرزون غمامه
للمجد في أجفانهم صلواته
و على أكفهم أطال قيامه
ليصف فترة الرخاء التي كانت فاض بها السد على ارض اليمن القديم ..يذيب حشا الفيافي خلفه … يقصد تجمع مياه السيول … ويبث أنسام الربيع أمامه .. إشارة إلى ازدهار الأرض بالزراعة حتى تكون كل المواسم ربيعا ..
ويصف أهل السد بانهم ( يفتقون فم المدى .. بوصولهم إلى أعلى مدى والفعل يفتق فيه تشديد توحي بقوة الفعل نفسه .. ويطرزون غمامه .. كلمة تطريز توحي بالرخاء والبحبوحة في العيش ..
للمجد في أجفانهم صلواته
و على أكفهم أطال قيامه
ويصبح المجد لهم ملازما بهيئة قدسية …
ثم يعود إلى الدائرة الثانية وهي بلقيس ولكن بصور اخرى حزينة بسبب واقع أليم فهو يبثها شكواه ..
بلقيس تذرونا الرياح كأنما
لم يلق هدهدنا الكريم سلامه
فجملة تذرونا الرياح لها دلالات متعددة بين الهشاشة والخفة .. والشتات والضياع .. والاستسلام والخنوع .. وكأن ما كان سابقا لم يكن ..
ثم يعود للسد ولكن ايضا من منظور جديد .. بمقابلة للدائرة السابقة ..
السد أهل السد انبت فيهم
الموت الضرير جفافه وضرامه
فبعد الربيع واشجاره أصبح نباتهم الجفاف والحريق وفي استخداهم للفظة أهل السد تاكيد على أن الضرر الاكبر اصاب الإنسان نفسه الذي صنع المجد السابق ..
ما ماس ثغر البيد إلا عندما
هطلوا جباها تستفز أوامه
والجدب عشب الحرب جذع بالمدى
يهمي وجذع يستحث جهامه
.. يذكر الشاعر ان الصحارى لم تلن لليمنيين إلا عندما اتحدوا وواجهوا واقعهم بقوة وحدتهم
وأن الجدب الذي تتغذى عليه الحرب ويقصد ضفعهم لا ياتيهم إلا بالويلات وبالأوهام ..
ثم ينتقل إلى حلقة جديدة في ملحمته وهي الفأر .. الذي كان السبب في خراب سد مأرب ولكنه فأر رمزي يحفر في النفوس .احقادا وغلا او هو صاحب القلم الذي يداهن ويتملق صناع الموت
الفأر يحفر في النفوس وتارة
يدني أرباب الردى أقلامه
… يأ ايها الملأ .. المحبة جنة
والحقد ينبت في القلوب مدامه
ماكنت قاطعة فكيف منحتم
الحرب الزمام حلاله وحرامه
يلبس الشاعر في هذه الابيات قناع الملكة بلقيس ويخاطب الشعب على لسانها مقتبسا جملا مشهورة لها ويعاتبهم بمرارة على تسليم وطنهم للحروب وويلاتها ثم يستطرد واعظا لهم علهم يرجعون للصواب ويبنون بلدهم من جديد
ما أتعس الانسان يغمد قلبه
ضيقا فإن هو طاب لام حسامه
لن يجبر الوقت السعيدة قبل ان
ينشق صخر سواده قدامه
فالوقت لن يداوينا ولكن كسر صخرة الظلم هو الشفاء الوحيد
ويختتم القصيدة ببيتين عذبين برغم مرارتهما الأول استفهامي عن موعد الشفاء من الجراح والعمر يمضي سريعا في ظلمات الحرب ..
ومتى ؟ ! لليل الياسمين مواسم
فإذا انقضت ارخى الربيع لثامه ..
..
والثاني يبوح بترقب المبعدين عن وطنهم لانجلاء الغمة في بلدان اغترابهم .
فالضفة الأخرى تراقب نجمة
في الغيب أسقاها الظلام تمامه ..
حروف شجنية وانتقالات ذكية وتراكيب قوية وايقاعات داخلية وبصرية زادت النص جمالأ و عمقته أثرا ..
.. لأحمد الجهمي تحية تقدير و إجلال شاعرا و زميلا و أخا سررت واستمتعت بقراءة ديوانه اكثر من مرة و لا اظنني سأمل من تكرار ذلك
رينا يحيى .
15.7.2019 م