رواية نخلة وبيت

بسم الله الرحمن الرحيم
وماتوفيقي إلا بالله

(( نخلة وبيت ))

هذه هي الرواية الأولى للروائي عيدروس سالم الدياني ، وهي الرواية الفائزة بالمركز الأول في المسابقة الأدبية التي رعتها دار (( عناوين ثقافية )) تحت مسمى ((جائزة محمد عبدالولي))، ومعلوم أن الروائي الراحل محمد عبدالولي من أوائل الروائيين اليمنيين، والذين تركوا بصماتهم الواضحة في أدب السرد اليمني.تشكلت اللجنة الفاحصة من د. عبدالحكيم باقيس الناقد الروائي، والروائيين وجدي الأهدل وسامي الشاطبي.
رواية (( نخلة وبيت)) من إصدار دار عناوين ثقافية وتضم بين دفيتها مائتي صفحة ونيف.

على الغلاف يظهر لك تجنيس الكتاب بإحالته للأدب الروائي، وفيه تجابه عينيك لوحةٌ لبيت من البيوت الريفية ، تقف جواره نخلة يستند عليها أحد الفتيان، ومن هنا فسوف تدرك أنك ستقرأ رواية وقعت أحداثها في قرية من قرى ريفنا اليمني.

ويصدق حدسك سريعا، غذ تقرأ أول جملة في الرواية، وهي باب ولوجك للرواية ( لما تداعت الصرخات من الجهة الغربية للقرية ) .
بطل الرواية الرئيس هو سعدان ، يسنده بطل آخر هو عوض، وهما الساردان اللذان يتناوبان السرد في ثنايا الرواية، فمرة يروي سعدان ، وأخرى يروي عوض، وإن كان حظ سعدان أوفر.

وهما صديقان عاشا طفولة مشتركة في القرية، وإن كان عوض من اصول قبلية في حين أن أصول سعدان ترجع إلى فئة العبيد الذين عاشوا في فترة السلاطين إبان الاستعمار البريطاني، وجاءت الثورة لترفع عنهم ضيم العبودية وتنتشلهم من أوهاقها؛ غير أن العقليات القبلية ظلت على معتقداتها ناراً مختبئة تحت الرماد، في فترة مابعد الاستقلال.
وما أن هل هلا الوحدة اليمنية حتى أطلت تلك المعتقدات بقرنها ثانية؛ فعاد القبيلي ليعدد مفاخره ، وليحي أمجاده، وينظر لذوي الأصول المتدنية نفس النظرة التي كانت سائدة من قبل.

الرواية لاتدين هذه النظرة الدونية لفئة العبيد المهمشين اجتماعيا  فحسب؛ بل هي أدانة أيضا لما شهدته البلاد مابعد الاستقلال من أوضاع متردية.
(الثورة حررت أبي ، وجعلته مساوياً لباقي الناس، ثم قتله رجال النظام، وهذا أمر سيء ، لكنهم قتلوا معه غيره دون تفريق بين عبد وسيد ، كانا في القتل سواء ).
وتدين ماشهدته البلاد أيضاً من حروب دارت رحاها بين أبناء الوطن الواحد؛ لاسيما حربي 1986م و 1994م، وكل ماشهدته البلاد بعد الوحدة التي رأى الروائي عيدروس الدياني أنها قد أخطأت خطاها فأحزنت الناس عوضا عن إسعادهم.
يقول واصفاً الحال بعد الوحدة:(تغير كل شيء هنا؛ فكل إنسان ينال احتراما يوازي الطبقة التي ينتمي إليها؛ مما جعلني في أسفل الهرم ، وبأقل مايمكن من الإقدام)
( بعث أبناء القبائل تاريخهم، وأمجاد اسلافهم، ولبسوا تلك الثياب البالية التي تجلهم اسياداً، بينما غيرهم ((حرّاث وصناع وعبيد))، هذه الطبقة التي أنتمي إليهاهي الأدنى على الإطلاق).

ظل بطل الرواية يحمل عقدته بسبب أصوله حيثما حل أو رحل.

يتقدم لإحدى فتيات القرية فترفضه. حين استعلمتها عمته عن رأيها في الزواج من سعدان أجابت:( لا أريد رجلاً اسوداً) في إشارة واضحة إلى أصوله.

يروي سعدان وعوض أحداثاً مرت بهما في طفولتهما ومرا بها في المدرسة، ثم يعبران صباهما وشبابهما. يحكيان عن علاقتهما بالناقتين اللتين كانا يرعيانهما حتى توحدت روحاهما بهما. ونعيش معهما تفاصيل حياتهما في ثانوية (نصاب)؛ الثانوية الوحيدة في المديرية.

ثم تنتقل بنا الرواية إلى السعودية حيث خال سعدان وأسرته يعيشون منذ سنوات ، فما عاد من سبيل امام سعدان سوى اللجوء إلى خاله، وفي خضم حياته هناك تدور احداث كثيرة، وهناك ايضا يقف لون بشرته حائلا دون ارتباطه بابنة خاله التي حملت له من الود الكثير، لكنها أبت أن تربط مصيرها بمصيره، واكتفت بأن يكون لها قريبا وصديقا.

وكما هاجر سعدان إلى السعودية ، دفعت الظروف الاقتصادية والحالة المتردية عوض هو ايضا لأن يطلب من صديقه سعدان إرسال تأشيرة عمل له، ويصف حاله في شريط كاسيت بعثه لسعدان يقول فيه: حملنا اسلحتنا ياسعدان ، وذهبنا لبيوتنا، بينما كانت القطعان تغرس أنيابها في المدن ، وتنهب المؤسسات والمصانع، وحتى اسرة المستشفيات.لم يتركوا إلا الجدران، ولكنهم لم ينسوا أن يسجلوا عليها ( الوحدة أو الموت).
إدانة جلية يضعها الروائي الرائع عيدروس الدياني لحرب 1994م.
يصل عوض إلى السعودية تهريبا، يروي قصة تهريبة ومصاعبها ومشاقها، ثم يعود ليروي معاناته في الغربة بعد التقائه بصديق عمره سعدان،فما كان يملك وثائق ثبوتية تمنحه الفرصة للاستقرار في المملكة؛ فيقررا مع صديق آخر أن يعودا للوطن ، تهريبا أيضا.
يمعن عيدروس الدياني في إدانة المجتمع ونظرته الدونية لذوي الأصول غير القبلية فقبل أن تنهي روايته يوصل سعدان غلى قريته ، وتصله مكالمة من الفلبينية (مارلين) التي عملت معه في ذات القصر؛ مكالمة جعلته يعود بوجه تملؤه الحياة، وبعينين تتقدان بالأمل. وهكذا تغمر السعادة قلبه من مكالمة استقبلها من  فلبينية لاتهتم للون بشرته ولا لأصله ونسبه، فكأنما أراد أن يؤسل رسالة قوية مناطها أن الآخرين في العوالم المتحضرة قد تخلصوا من عقد اجتماعية لازلنا نرزح تحت وطأتها.
يعود عوض إلى اسرته وأولاده، ويعود سعدان إلى النخلة وإلى الإبل، ليبدأ رحلة حياة جديدة ملؤها الثقة.
ثيمتان رئيسيتنا كانتا محود الرواية أولاهما: إدانة التفرقة بالأصل والنسب، وثانيهما:إدانة الحرب وتبعاتها.
الحوار في الرواية كان مستقيما تماما مع الشخصيات ومستوياتها التعليمية والفكرية.
واللغة كانت موفقة كثيرا في نقل مشاعر الساردين إلى القارىء وإرغامه على التعاطف معهما.
وكانت خط أحداث الراواية يسير بشكل تصاعدي سالكاً إلى نهايتها في حبكة تفنن الدياني في صياغتها.
نخلة الرواية ذكرتني بنخلة عبدالرحمن الداخل في الأندلس ، فقد كانت بالنسبة له مرموز الوطن البعيد، حتى قال فيها:

تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ

تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ

فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى

وطولِ الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي

نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ

فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي.

استطاع الروائي عيدروس سالم الدياني في أول رواية لها أن يقنع بإمكانياته السردية، وأن يمنحه وقتا ممتعا يقضيه في قراءة رواية جميلة.

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

من يعيد لنا مجد مصطفى محمود؟

في فرنسا يُعتبر ظهور أحد المفكرين البارزين على القنوات التلفزيونية المحلية ظاهرة اعتيادية وممارسة يومية …