الشِعرُ حَالةٌ لَطِيفة لاَ تَعترِف بِالكَثِيف .. ومَع ذلِك فَإنَّها تُؤثِّرُ فيهِ وَبِعُمُق .. وُجودُها فِي الذَّات وُجُودُ الذَّات مِنها ، غيرَ قاَبِلَةٍ لِلعَدَم .. لاَ تَموتُ ، ولاَ تفنى ولاَ تُنتزَعُ مِنها الاَّ بِانسِلاخِ الرُّوحِ مِن الجسَد .. وربِّما تُخَلِّد بِخلُودِها لأنّها لطيِفَةٌ مِنْ سَنْخِها ..
حالٌةٌ أشبَهُ بِمَنْ يَتَأَلَّم ويُحاول أنْ يجعَلَ نفسَهُ لاَ يَعرِف بأنُّه يَتألَّم .. ومتى كان إنكار الألَمَ ينفِي وُجُوده ؟!
تنسَرِبُ الَكلِماتُ منها كما يتسرَّبُ المَاء ويَنسرِبُ جَوف الأرض ليبعثَ فيها الحَياة ..
كذا فُؤادِي إنْ لَمْ يَفِض بِمَا فِيهِ يَخْتَنِق .. وما أبهى الجُزُر عِند فيضِ الكَلِمات .. هدوءٌ وسكِينُة ولونٌ أزرَق بِلونِ السَّماء .. وربيعٌ مزهرٌ دافِء يشعرُك بالأمان.
الحَيرةُ أيضاً حالة وباحةٌ من عالَمٍ مشحونٌ بالطَّاقاتِ الخارِقة التي لا يَحدُّها محدودٌ ولا يعدَّها مَعدود ، خارِجَةٌ عن نِطاقِ الزَّمَكان .. تَعملَ فيها الجاذبيّةُ عَمَلَ إِنْصِهارُ الأرواح ونفْيَ التضاد ..
الشِّعرُ هو غَرَقٌ في بُحورِ الأمنيات ، وتحليقٌ في أفُقِ الخيال ، وخوضٌ في عالَمِ الوَهمِ بَحثاً عن مخبوءٍ غير مُدْرَك .
وكَأنَّّ لِحَواسِنا بعداً يَفوق البُعدِ العاشِر .عِندَ حَافَّةِ الزَّمَن حيثُ عَرَج الحبيبُ نحوَ سِدرَة المُنتهَى ..
أحياناً اُسَمّيهِ – الضّيَاع- واحياناً أسمّيه – إدراكُ الوَعي- ، حسب الحَالَة التّي تُعتَريني .
فقد أبكي مُصابَ من لَمْ يُبكهِ مصابُه وأفرحُ لِبشرى لَمْ يضحَك لها صاحِبُها ..!
أوَلَيسَ التِّيه من يفعَل كُلّ ذلك ؟!
أهو داءٌ موجِعٌ أم نِعمَةٌ أُحسَدُ عليها ؟!
مَنْ يَمسَح مِنْ ذِهني دَمعةَ مُحتاج وأُعطِيهِ سَعادَة ؟
من يُنسِنِي صُراخَ ملهُوفٍ واخلُق لهُ إبتِسامَة ؟!
حالتي غريبة . أكادُ اكون أنا غريبة عنّي. لا أملُكُ لِذاتي زِمامَ أمرٍ . إنَّها مُتَصَرِّفةٌ بِذاتِهَا . مُتَأَثِّرَةٌ رغماً عَنّي بِكُلِّ ما يحيطُ بِها . حتى المناخ والطبيعة والهواء والماء . وكُلّ شيءٍ ينالُ مِنها حصَّتَهُ .. انْ أمطرتْ تغيَّرتْ وتفاعلَتْ مع عِطرِ التّراب .. وإنْ كانَ الهواء عزفتْهُ لَحناً يُناسِبه وإنْ صفّقتْ اوراقُ الخريف غنَّتْ لها لحنَ الوداع ..
اتعلَّقُ بقلَمي دون غيرهِ مِن باقي الماديُّات .. فأنْ أسكُب مشاعري على ورقٍ أَحَبُّ اليّ من أن اجِدَ بينَ يديّ ثميناً بِنظر آخرين .. وعندما لا أجدُ من لاَ يفهمني أعود اليهِ عودةَ عاشقٍ الى معشوقهِ عودة مُحاربٍ مهزوم من قبلِ أنْ يحمِلَ سِلاحَه .
أليس عدَم وجود من يَفهَمُك .هو الفقدُ بعينِه وهو التِّيه وهو الضّياعُ التَّام في دُجى لَيلٍ اليل ؟!
يُقال أن سعادةَ الفِكرِ في تَضَادّ المَواهِب وأقول كلّ المَواهِب فيص نفس شاعِرة . انّما الفرق بين من يشعُر وبينَ من لا يشعُر
كالفرق بين الحيّ والمَيت ..
فوحدها حواس الرّوح يمكنها أنْ تلمَس المعنى وتستخرِجهُ من قيدِ اللفظة والحرف .
تماماً كمَن يقرَأ كلِماتي الآن .
في اعماق كلّ انسانٍ يكمَنُ مخبوءٌ قد يُدرِكه احياناً . وأحياناً لا يُدركه فليسَ مِنَ السّهلِ استخراج ما في اللاَّ وَعي . ودون خلعِ رِداءِ الصّمت والعتق منهُ يبقى المخبوء كافِراً في الأعماق .ونادرا جدا ما يَمكن خلع ذلك الرداء الاّ بتغييرِ مصارٍ عن اسطوانيَّتِه .
وتغييرُ المصارِ عادة ما يُحدثُ خللاً في باقي السّابحات . فنِظامُ الفَلَك الدَّائر سائرٌ بيدِ القَدَر .وكذا باقي الأفلاك تَسير .
التّوريةُ بعضٌ من تَخَفٍّ وَراء مكشوف يظهرُ لِلبصيرةِ بلونِ الماء صافياً .
ولكنّه لاَ يظهرُ للبصَرِ وإنْ سطعُتْ عليهِ شمسُ تمّوز وقتَ الظّهيرة .
و- تبقى الإستعارة ملاذ الرّوح في كشفِ المخبوءِ – الى حين ظهورِ الحقيقة …
وهنا اضعُ نَقطةَ النّهايةِ وأتركُ لكُم حرية التفكير وما تستخرجونه من معنى .
—————
-
بقلم : عناية أخضر – لبنان