أم نظير .. …..قصة قصيرة
كان يدرس في السنة النهائية بكلية الهندسة جامعة أسيوط … شاب متوسط القامة يميل للسمرة قليلاً .. رقيق الطباع .باش الوجه .. كارزمي المحيا .. ينحدر من أسرة متوسطة الحال هي للفقر أقرب منها للغنى . مما جعله يمر بضائقة مالية شديدة طوال فترات دراسته بالجامعة …. وقد سكن بغرفة متواضعة في شارع (الشيخ منطاش ).. بإحدى ضواحي مدينة أسيوط العتيقة .. يدفع إيجاراً شهريا قدره خمسة جنيهات … بيد أنه كان صارماً في مصروفاته .. حتى أنه كان يطوي يوماً كاملاً دون أكل … اللهم سوى بعض لقيمات من الخبز الناشف والملح وبعض وريقات الخس البلدي الذي كان يشتريه بالأجل من الست (أم نظير) والتي كانت بدورها تقطن بالشارع … تبيع الخضروات كالجرجير والفجل والكرات وربما الطماطم والبطاطس واليقطين .. امرأة في العقد الخامس من عمرها مربوعة القامة لديها مسحة من جمال قد طمر بفعل ضربات الزمن الموجعة .. منذ موت زوجها عائلها الوحيد . الذي ترك لها بنتين وولداً معاقاً يقبع بالمنزل دون حراك … باسمة الوجه طيبة القلب مكتنزة الشحم .. لوزية العينين .. ذابلة الوجنتين … كانت مسيحية الديانة .. من الطائفة الآرثوزوكسية والذين هم غالبية أقباط مصر . ولم ير أو يسمع عنها إلا كل ما هو جميل من معاملة وخلق .. وقد تقدم لها العديد من الخطاب للزواج بها لكنها أبت وآثرت أن تربي بنتيها وولدهاالمعاق ..
كان الطالب ( جلال شاكر الخولي ) دائما ما يقترض منها نقوداً إن داهمته ضائقه مالية ..ربما لشراء بعض الكتب أو المذكرات الجديدة .. لم يسل هذا عندما أرسل لأبيه في إحدى المرات كي يرسل له أي مبلغ مالي لسداد إيجار الغرفة . فجاءه الرد سريعاً .. أن تدبر أمرك ليس معنا شيء سوى قوت إخوانك الصغار .. لم يغب عن نظر الطالب وقوفها معه عندما طرده صاحب الغرفة لتأخره في دفع الإيجار الشهري .. ساعتها ذهب إلى (أم نظير) يبث لها شكواه وحاله المزري .. فما كان منها إلا أن أخرجت من خابيتها مبلغ خمسة جنيهات وأعطتهم له وقالت له في صرامة أعطهم لهذا الرجل الجشع وانسى الموضوع .. ما يهم هو مذاكرتك وجامعتك ..فأنت كما ابني الذي وددت لو أراه مثلك على بعد خطوات من التخرج ليصبح مهندساً يشار له بالبنان . لم ينس وقوفها معه سنداً في أحلك ظروفه … يا لها من أم رؤوم … لطالما اتخذتها أماً بعد ما ماتت أمي الحقيقية .. لا تفرق كثيراً عن حنان وود ورحمة أمي …
ها قد نجح ( جلال )بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف … وجاءته منحة علمية من المانيا الغربية … فتشبث بها وسافر بأقصى سرعة إلى هناك كي يبني مستقبله العلمي والمادي … وهو ما تيسر له بالفعل هناك وأصبح من كبار مهندسي شركة ( لوخت بانزا ) للتخطيط العمراني هناك .. ومرت الأيام السنون …
ثم قام ديوان عام محافظة أسيوط بالاتفاق مع شركة التخطيط الالمانية .. وذلك لعمل تخطيط عمراني لمنطقة ( الطرابيش) والتي يتبعها شارع (الشيخ منطاش) وبالتالي سكن الست ( أم نظير) والتي وصلها أكثر من انذار من المحافظة لإخلاء المنزل .. وهي لا تستطيع ذلك لعدم توفر البديل …إين تذهب ببنتيها وولدها القعيد .. والحال لا يخفى على أحد .. من أين لها بالمال كي تستأجر غرفة .. ناهيك عن شقة … وهي الآن متوقفة عن البيع بعدما ضربها المرض بسياطه ولم يبق منها سوى جسداً واهناً ضعيفاً وعيوناً غائرة تبحث عن ملاذ أو سند .. لكن هيهات … فقلوب الناس تحجرت والعيون عميت والآذان صُمَّت … ولم يعد أمامها سوى محاولتها الأخيرة وهي أن تذهب للسيد / المحافظ ومعها مشكلتها لتضعها بين يديه… فتحاملت على نفسها ومضت تتعكز علي إحدى بناتها للديوان ..
لقد كان المحافظ يعقد اجتماعاً مهما مع المهندس(جلال) كبير مستشاري الشركة ولفيف من المهندسين والاستشاريين وأعضاء مجلس الشعب والمجلس المحلي ورؤساء المدن والقرى وذلك بقاعة المؤتمرات بالديوان .
ساعتها كان المهندس جلال يجلس بجوار المحافظ على طاولة الاجتماعات .. وغفل الحراس عن أم نظير فدفعت الباب ودخلت تتوكأ على بنيتها والدموع تترقرق بعينيها .. وهي تقول بصوتها الذي تحشرج ..( فين البيه المحافظ … أنا عاوزه اقابله يشوف لي حل في مصيبتي دي …) بعدها ساد الصمت والوجوم على الجميع .. وانتبه الحراس لها فجاءوا مهرولين للامساك بها وإخراجها من القاعة .. في تلك اللحظة رآها المهندس (جلال )..وعرفها .. نعم إنها هي .. ما زالت تفاصيل وجهها محفوظة في ذاكرته .. فانتفض من فوره وهرول ناحيتها وهو ينادي بأعلى صوته … انتظر أيها الحارس … فوصل إليها ..ورمقها بنظراته .. ثم أمسك يدها وانكفأ يقبلها ويقبل رأسها … والدموع قد انسابت على خديه .. والحضور قد أخذتهم الدهشة من تصرف كبير المستشارين .. ثم أشار بيده تجاه (أم نظير ) .. وهو يخاطب الحضور بصوت متهدج ..أتدرون من هذه السيدة …. إنها أمي التي ربتني .. وعطفت علي في أحلك لحظات حياتي .يوم أن تخلى الجميع عني .. سيادة المحافظ أرجو منك أن تؤجل الاجتماع فأنا ماض مع هذه السيدة الطيبة إلى حيث تأمرني هي … هيا بنا يا أمي …
وما إن وصل إلى حيث تسكن السيدة .. هاجت به ذكرياته لما رأي الشارع والغرفة التي كان يقطن بها .. وعرف من الست (أم نظير) مشكلتها . ساعتها أخرج مفتاح شقته الفاخرة الموجودة بأبراج شارع النيل .. وأعطاه لها .. ثم نظر إليها وقال من الآن أصبحت باسمك ومن الغد بإذن الله .. سوف أذهب للشهر العقاري وأسجلها باسمك بيعاً تاماً … و سأعمل لك حساباً في مكتب البريد وأضع به مبلغ مائة الف جنيه كي تستعيني بها على المعيشة ..
بعدها نظر إليها في لطف ورحمه .. وقال لها أرجو ان تغفري لي عدم السؤال عنك طوال هذه المدة .. لكم كنت أنانياً لا أقدر معروف وإحسان الآخرين لي … أمي .. أيتها السيدة الطيبة الحانية الرحيمة . أو لا تغفري لابنك (جلال ) …
فهزت برأسها وكأنها استنكرت ما قاله وقد علت محياها ابتسامة عريضة … على أي شيء أغفر لك وانت لم تفعل سوى الخير الذي قدمته لنا … لولاك لكنا الآن بالشارع ..
فنظر إليها وإلى بناتها .. وقال…ألا تجهزون لنا طعام العشاء قبل أن أسافر إلى برلين … لقد ظللت أحلم باليوم الذي أعود فيه وأحظى بوجبة عشاء من أيديكم . ويد هذه الأم الحانية التي لم أنل منها سوى الخير ..
ثم تلى الآية الكريمة (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )
وردد قول المسيح عليه السلام ( من ثمارهم تعرفهم ..)
محمود أبو عاشور
مصر