(قراءة تحليلية لنص “وجبة الهوى”) للشاعر / جهاد الكريمي

قراءة تحليلية لنص “وجبة الهوى”
للشاعر / جهاد الكريمي

ت/ إبراهيم القيسي

وجبة الهوى

تقول: _وإقبال اللمى خير ناطق _
دنوتُ ..ألا أرسلت حبل العلائق

وفدتُ…ألا أقريتني وجبة الهوى
وآويت بالتّحنان إجفال خافقي ؟

فقلت لها والزهر يذوي على فمي
ّرويدك إن الحبّ رهنُ المشانق

أحبُّ لم !؟ والحب يغتالهُ النوى
ويكوي فؤاد الوصل فيحُ التفارق؟

وقد بعثروا قلبي على كل ربوةٍ
ويطوون أحلامي كطيّ الوثائق

بأرضٍ ترى شهد المحبين علقماً
وصدّاحة الأفنان شرّ النّواعق

وكيف، ولم ألق من الأكل وجبةً
لأطعم أطفالاً ذوو كالزّنابق!؟

يموت الهوى في أول العمر خائفاً
إذا لم يكن قد مات بين العلائق *؛؛

رثت لي ،وقالت:أنت من أيّ كوكبٍ
فقلتُ سناً واراه شرّ الغواسق

أنا موكبُ الآهات، فكرٌ مشرّدٌ
تهشّم إشراقي سمانُ المطارق

أنا يا سؤال الآه لونٌ من العنا
وطيفٌ من الحرمان بين الخوافق

أنا نوحُ عصفورٍ مهيضٍ جناحهُ
تداعت له في الأفق أعدى اللقالق(١)

خُلقتُ جهاداً أدفع البؤس والعنا
ووسمُ الفتى والحظّ وفق التّطابق
*

_شبابك ماذا عنه؟،قلت اهدئي فقد تشظّى شبابي،واكفهرّت دقائقي

ولدت أعاني الهمّ من يوم مولدي
ومتّ صغيراً في نيوب العوائق

وجئتُ فقيراً يسرقُ الليلُ لقمتي
وتخطف فجري واجماتُ الطوارق

شبابي بأشواك المفازات ضائعٌ
وعمري يمامٌ في شراك المضائق

رحى الستّ والعشرين دارت،تسوقها
زوابعُ ألوان الشقا والمآزق

بلوتُ بها الدنيا ومن عاش فوقها
فلم يكُ عيشي غير خصمٍ منافق

تنام على عزف المآسي نوارسي
وتصحو على عصف الرزايا حدائقي

سريتُ زماناً فوق أصداء نهدتي
وبُحّت نداءاتي وشابت مفارقي

ومات النّدى في كفّه الخبزُ جائعاً وماتت نسانيسُ الرّياض العوابق
***

أنا يا سنين الضوء من عالم الدّجى
أقوتُ الكرى والصاب مُرّ المذائق

بمقبرةٍ تُدعى بلاداً سعيدةً
وكم يخدع العُشّاق وصفُ المناطق

بها يُدفنُ الإبداع حيّاً فؤادهُ
ليرقى شرار الخلق أعلى الطوابق

ويقضي السنا في مُقلة الفجر غيلةً
وتُغتال شمسُ النُّبل بين المشارق

ولو كنت في أرض سوى بلدة الشقا
لكنت أمير القوم رأس الفيالق

فحُمّت أنيناً ، واستشاظت مدامعاً
وولّت وآهات الجوى خيرُ ناطق

ولم يبق من طيف اللقا أيّ شاهدٍ
سوى دمعةٍ ثكلى بأحداق نافق

ونزع سرورٍ،و احتضارات بسمةٍ
بنسرينةٍ ظمأى،،وإطراق عاشق

وشحرورةٍ ذابت ،وإلياذةٍ بقت
تُخلّدُ ذكرانا بفلمٍ وثائقي

______________________________
////////////////////////////////////////////

إطلالة

الشاعر جهاد الكريمي من الشعراء الشباب الذين صهرتهم المحن وعصرتهم الفتن وعركتهم رحى الحرب بثفالها حيث جاءت تجربته تجمع بين الحزن والألم والصبر والجزع والتشاؤم والتفاؤل والرفض والتمرد والتوهج والدهشة .
يحلق نحو آفاق الشعر يحدو بإيقاع الكلمة وينشد بجزالة اللفظ في تجربته ألم وفي نغمته حزن يخطو على رسوم المدرسة الإحيائية بفخامة أسلوبها وجزالة ألفاظها وترابط إحكامها وبناء نسجها المتين .

حيث تتناص قصيدته
“وجبة الهوى”
مع رائد المدرسة الكلاسية محمود سامي البارودي في نصه “فراق وشوق” الذي كان من ضمن بكائياته في منفاه في جزيرة “سرنديب” حيث يتناص معه من خلال البحر الطويل وحرف القافية وموال العاطفة الحزين .
وعلى الرغم من توجه الشاعر الإحيائي المحافظ إلا إنني ألحظ ذلك الهمس الرومانسي من خلال الأسى والحزن المتدفقين من تفعيلات البحر الطويل حيث يمزج في تجربته بين الأصالة والمعاصرة من خلال التأثر بمذاهب الشعر الحديث كالرومانسية والرمزية مع بعض الإطلالات السريالية التي يتطلبها تحليق الخيال أحيانا .
يمضي الشاعر في تجربته عازفا على البحر الطويل يفرغ من خلال إيقاعاته الطويلة احتقاناته العاطفية المتدفقة بانثيال الحسرة والألم بأسلوب سهل المأخذ بعيد عن التعاظل والغرابة خال عن التجريد إلا ما اضطر إليه من رمزية معبرة وإيحاء مكثف يبرز من خلال تحليق الخيال واحتراف الشاعرية .
يعالج في تجربته قضية الحياة وفلسفتها من خلال مواقف الصراع الملامس لظروف الواقع بانطلاق من بؤرة الحدث حيث يتقمص درع الكارثة بإسقاط اجتماعي يرسم الأبعاد بحوار روائي يجسد المأساة الإنسانية بمتاهة خبوتها وزواياها المظلمة
يمضي الشاعر بانصهار تراجيدي يمزج بين رؤى الشاعر وفلسفته يحرر الأفكار ويهمر المشاعر بتوازن وارف في إطار قالبه الموسيقي .
جسدت المحاور الموضوعية في النص رحلة الشاعر البنائية في صهر الشكل والموضوع بتطويع التيمات الحزينة من خلال إدراك واع وفلسفة ثرية وعواطف تهرق التوتر والانفعال مع بكائية تذرو رسيس الألم في أفق يهتاج بإعصار العواصف .

وقد اختار الشاعر لنصه عنوانا يعبر عن مشهد الطلب المقدم من المحبوبة بمبادرتها الآنية بطلب القرى والإيواء مع طلبها الإقدام من الشاعر على عقد وتيرة الحب بين قلبها وقلبه
فالعنوان يتراسل مع هذا المضمون من حيث الظاهر الموضوعي حيث اختاره الشاعر كأيقونة تعبر عن هذه الجزئية كونها باكورة استهلال النص وعلامة المحور الأساسي الذي انداح الشاعر من خلاله إلى بقية المحاور بواسطة خيوط دلالية تربط كل المحاور بالمحور الرئيسي .

ومن خلال الإشارات المرجعية في النص مع العنوان يمكن أن يشير العنوان إلى أزمة العيش التي حاصرت الشاعر بالفقر وقللت من فرصة الكسب الأمر الذي أدى إلى وجود الخلل في وجبات القوت التي ضاعفت من الجهد والفاقة .

فالوجبة بهذا المدلول تتناص مع موضوع الشاعر وأزمته المالية من حيث إبراز الدلالات الجزئية والكلية والظاهرة والباطنة كونها تجسد تيمة أسطورية في أفق النص تتآزر مع إدراك الشاعر وإنفعالاته العاطفية من حيث التوامض مع مقدرات الشكل والموضوع في لوحة النص الكلية .

أولا : محور الاستهلال

////////////////////////////////////////////

تقول: _وإقبال اللمى خير ناطق _
دنوتُ ..ألا أرسلت حبل العلائق

وفدتُ…ألا أقريتني وجبة الهوى
وآويت بالتّحنان إجفال خافقي ؟

فقلت لها والزهر يذوي على فمي
ّرويدك إن الحبّ رهنُ المشانق

أحبُّ لم !؟ والحب يغتالهُ النوى
ويكوي فؤاد الوصل فيحُ التفارق؟

وقد بعثروا قلبي على كل ربوةٍ
ويطوون أحلامي كطيّ الوثائق

بأرضٍ ترى شهد المحبين علقماً
وصدّاحة الأفنان شرّ النّواعق

وكيف، ولم ألق من الأكل وجبةً
لأطعم أطفالاً ذوو كالزّنابق!؟

يموت الهوى في أول العمر خائفاً
إذا لم يكن قد مات بين العلائق

////////////////////////////////////////////

بدأ الشاعر محور الاستهلال بحوار افتراضي أو حقيقي اختاره عنوة تقمص من خلاله فصول المحاور ليسقط الأحداث للمتلقي بصورة حوارية تمزج بين غنائية الشعر ودرامية المسرح حيث يرسم المسافة أثرا وتأثيرا بأسلوبه الخاص المتسم بالسلاسة والانسياب في حوار متهاصر مع المخاطبة حيث يمضي مسترسلا بإجراءات الحوار بأسلوب درامي يحدد المشاهد بأبعادها الفنية والدلالية حيث يبرز الشاعر أغواره السيكلوجية بظاهرة الرفض العاطفي المستبطن للمفارقة المتكئة على الحسرة والألم .

حيث يستهل الحوار بالإسناد إلى المخاطبة بطلب وجبة الهوى وهي ظاهرة تتناص مع الشاعر عمر بن أبي ربيعة باستراتيجية تعمل بتحفظ الشاعر واسترسال المرأة حيث يعد هذا الأسلوب من التناص الموضوعي مع تاريخ الغزل في عصر بني أمية فالشاعر بهذا المغزى الغزلي يعمل على التجديد بإظهار المرأة عاشقة والرجل معشوقا مع الفارق الموضوعي الذي يعالجه الشاعر .
من خلال استرسال الأحداث بينه وبين المخاطبة .

فالشاعر يبدأ استهلال النص من خلال مبادرة المرأة بطلب تقديم وجبة الهوى والدعوة إلى إيوائها واسترسالها نحو العلاقة العاطفية من خلال الأفعال التالية :

” تقول / دنوت / وفدت ” .

وهي أفعال مضارعة مسنودة إلى ضمير المتكلمة بأسلوب الالتفات بين ضميري الغائب والمخاطب حيث تتقدم المرأة بخطاب الشاعر من خلال الأسلوب الإنشائي :

” ألا أرسلت حبل العلائق ” .
“ألا أقريتني وجبة الهوى” .

حيث دل أسلوب العرض الإنشائي المتجسد في الأداة “ألا” للدلالة على العرض العاطفي حيث يتأكد ذلك العرض من خلال عرض الشاعر للصورة المجازية التالية :

” وإقبال اللمى “

حيث تجسد الاستعارة المكنية في الصورة إضفاء الحركة والإثارة للشاعر من حيث العلامات الهاطلة من محاسنها في حال مباشرتها الخطاب بإشراق ديباجة وانفلاق ثغر .
حيث تعبر الدلائل السيميائية عن استرسال المخاطبة بنرجسية الأسلوب المتناص مع الشاعر ابن أبي ربيعة من حيث تقديم المرأة نفسها وتمنع الشاعر .

غير أن تمنع الشاعر في النص يأتي بمغايرة أسلوبية تختلف تماما عن ابن أبي ربيعة فالشاعر هنا يذهب مذاهبا أخرى تتكئ على إسقاطات سيكلوجية واجتماعية ترسم الحدث من تيار الحدث حيث يمتزج جوابه بألم الحسرة والتهاب المشاعر ينحو منحى الرفض والتمرد .

حيث تأتي مباشرة الشاعر للرد على المخاطبة من خلال الحديث عن مأساة ذاته المحاطة بقدر الخوف والفقر والتشرد والحيرة والقلق والاضطراب فظاهر الشاعر وباطنه يتآزران في أفق النص بإجلاء روافد الحقيقة عن قبول دعوة المخاطبة .

حيث يتأكد جواب الشاعر في إطار الحوار من خلال الفعل الماضي المسنود إلى تاء الفاعل في نسق التسلسل الدرامي .

“فقلت لها ” .

حيث تظهر على ثغر الشاعر ابتسامة ذاوية أثناء الرد تعبر عن الألم والحسرة وبمشهد يبعث الدهشة والمفارقة وذلك من خلال الاستعارة التصريحية :

” الزهر يذوي على فمي”

حيث شبه الابتسامة بالزهرة وحذف المشبه الابتسامة وصرح بالمشبه به الزهرة بدلالة الضمور والذوي .

ثم يستمر الشاعر في توجيه الخطاب إلى المرأة بانثيال هادئ يحمل الرزانة والتعقل من خلال اسم الفعل .

“رويدك ” .

حيث يحمل اسم الفعل الدال على الأمر قدرا من التوظيف الاستراتيجي للدلالة البلاغية في خطاب الشاعر لها من أجل تخفيف التسارع العاطفي والتزامها التعقل والاسترخاء عن طلب الحب في ظروف الحرب .

حيث يؤكد بأن طلب الحب في هذه الظروف إنما هو ضرب من الانتحار ورحلة نحو المشنقة حيث يؤكد هذا الأمر من خلال الجملة الاسمية التالية .

“إن الحبّ رهنُ المشانق”

ثم يضيف بأسلوب إنشائي مقدما الاستفهام الإنكاري الذي يمتزج بالدهشة والرفض .

“أحبُّ لم !؟”

ثم يدلل على رفض الحب بالإحالة إلى أحداث التمزق والبعثرة التي أسندها إلى القلب الأمر الذي يضخم صورة التشرد والنزوح الدائمين :

“بعثروا قلبي على كل ربوةٍ “

فصورة القلب المبعثر تضخم القلق وتجسم الحدث وتضع الحال في وضع دائم من التشرد والنزوح حيث يقف الشاعر على ثنائية الهم والألم يبحث عن العيش في ظل تزامن الحروب والمساغب .

يستمر الشاعر بانثيال متسلسل يرد على المخاطبة بمفارقات كبيرة وانقلاب كوني شوه الحياة وفاقم من مرارة العيش حيث يظهر ذلك من خلال تضخم السلبيات وانقلاب مقاييس الذوق والجمال .
فيمضي الشاعر يعرض تلك المفارقات من خلال الأسلوب البديعي المجسد للمطابقة بين “شهد / علقم” .

“ترى شهد المحبين علقما “

وبين “صداح / ناعق ” .

“صدّاحة الأفنان شرّ النّواعق”

فالتضاد الآنف جسد الدهشة والمفارقة نتيجة انقلاب الموازين واختلاط الخير بالشر حيث يسبر الشاعر بهذه المطابقة عمق الحياة التي يعيشها المواطن اليمني بكل تجلياتها المنحرفة وآفاقها المشوهة فالشاعر يرسم صورة مقززة للواقع من خلال الرؤية الفاسدة التي أقامت الصداح مقام النعيق والشهد مقام العلقم .

ثم يأتي بالاستفهام الدال على التعجب :

“وكيف ؟ “

وهو استفهام يضخم الغرابة والدهشة ويعبر عن رفض طلب الحب في زمن المساغب والمجاعات فالبطون الجائعة لا تستمع إلى داعي الهوى واستمراء الحب :

“ولم ألق من الأكل وجبة “

تعبير يجسد البساطة والعفوية ولكنه يضخم الفظاعة والألم ويكشف الأبعاد الكارثية التي وصل إليها الشاعر في ظل فقد المقومات الأساسية للحياة .
فالجائع فارغ الفكر والعواطف ثائر المشاعر والأحاسيس يبحث عما يسد به رمق الحياة .
حيث يصل الشاعر من خلال الأسلوب الخبري الآنف إلى استدعاء الرحمة والشفقة نتيجة المأساوية التي وصلت إليها الأمة اليمنية حيث يعد الشاعر فردا واحدا منها يحتضن معها الفاقة ويأتزر الفقر .

ثم يختتم الشاعر مشهد الفظاعة بتجسيد عجزه عن إطعام أطفاله من خلال الصورة التشبيهية للأطفال بزهور الزنابق الذاوية بجامع الجدب الذي حرم الأطفال القوت وحرم الزهر الماء .

“لأطعم أطفالاً ذوو كالزّنابق!؟”

فالشاعر في هذا المحور جسد المفارقة بين داعي الهوى وداعي الجوع بين الحب والحرب بين الاستقرار والتشرد بين الأمن والخوف بين الرفاهية والفقر فثنائية الشاعر والمخاطبة يعزفان على وترين مختلفين يتضادان في المنحى والتجربة والرؤية والفلسفة وفي العواطف والمشاعر وفي الحال استقراراً وتشرداً .

ثانيا : محور الرثاء والإنكار

////////////////////////////////////////////

رثت لي ،وقالت:أنت من أيّ كوكبٍ
فقلتُ سناً واراه شرّ الغواسق

أنا موكبُ الآهات، فكرٌ مشرّدٌ
تهشّم إشراقي سمانُ المطارق

أنا يا سؤال الآه لونٌ من العنا
وطيفٌ من الحرمان بين الخوافق

أنا نوحُ عصفورٍ مهيضٍ جناحهُ
تداعت له في الأفق أعدى اللقالق(١)

خُلقتُ جهاداً أدفع البؤس والعنا
ووسمُ الفتى والحظّ وفق التّطابق
*
////////////////////////////////////////////

جاء المحور الثاني بتحول درامي للمخاطبة يجسد الدهشة والمفارقة الناتجين من التأثير التلقائي لجواب الشاعر المسهب في المحور الأول الأمر الذي خيب آمال المرأة وجعلها تغط في ضباب الحيرة والإدهاش حيث انتقلت من عرض الحب إلى الرثاء والشفقة الممزوجين بالاستغراب والإنكار حيث يؤكد الشاعر ذلك المشهد من خلال رواية الحدث في المحور الثاني :

“رثت لي ” .

ثم سؤالها الذي يحمل الإنكار والتعجب :

” قالت : أنت من أيّ كوكب؟ “

فالسؤال يحمل دلالات مزدوجة استطاع الشاعر بقدرته الفنية تحميلها بإتقان من خلال المعادل الحواري “المخاطبة” برواية مشهد الحب بإشارات مرافقة تفتن ببهارات السخرية مع رثاء ممزوج بالدهشة والمفارقة حيث جاءت ردود الأفعال من إدراك المخاطبة للمشاهد بتدوير الحدث الجامع بين الشك واليقين .
فالشاعر ينطلق من خلال ملابسات الواقع معبرا عن الماهية متجاهلا المكان الذي حدده السؤال :

“فقلتُ سناً واراه شرّ الغواسق” .

فإدراك الشاعر للصراع بين النور والظلام قرب المشهد في ثنائية الخير والشر نتيجة هيجان الدياجير واستبدادها في حصار قيم الخير وتطويق مبادئ الحق في ردم مغلق لايسمح لها بالانفلاق والتوهج .
حيث استطاع الشاعر تجسيد مأساته في صور متعددة ترتبط بامتزاج أسطوري بثنائية .

“الموكب / الآهات”
“الفكر / التشرد”
“اللون / العنا “
“الطيف / الحرمان “
” النوح / العصفور “

حيث تزاحمت تلك الثنائيات باطراد في جمل اسمية تتصف بالثبات والاستمرار تجتر الأزمة الإنسانية المتفاقمة بعيدا عن الأمن والاستقرار الأمر الذي ولد الدلالات البلاغية الممتزجة بالآلام والحسرات

أنا موكبُ الآهات .
فكرٌ مشرّد .
لونٌ من العنا .
طيفٌ من الحرمان .
نوحُ عصفورٍ .

نلحظ من سياق الأحداث ربط الشاعر بين الثنائيات المتوازية بعلاقات مجازية الأمر الذي جسد واقع الشاعر المتأزم في صور تراجيدية متحركة تعبر عن مواقف الصراع وتداعي القوى الاستبدادية التي وقفت بالمرصاد وحالت دون أمنه واستقراره .

حيث نلمس في تجربة الشاعر المزج بين الزمان والمكان والحسي والمعنوي واللوني والصوتي حيث جسم الحالات الإنسانية في صور خيالية تربط بين الذات والألم بمجازات مطردة تتجسد في النور والآهات والفكر والتشرد واللون والطيف والحرمان والنوح وهذه الصفات التراجيدية تقف أمام أزمتها قوى الاستبداد المتجسدة في :

– شرّ الغواسق .
– سمانُ المطارق .
– بين الخوافق .
– أعدى اللقالق .

فما زال سنا الشاعر يتوارى خلف كثف الظلام الجائر نتيجة الصراع بينه وبين الأحداث .

“سناً واراه شرّ الغواسق”

فالسنا الصادر من تجربته يتوارى خلف الغاسق يجتر التحرر والانعتاق بعيدا عن التوهج نتيجة احتلال الأفق من قوى الظلام والاستبداد .

يظل الشاعر يرسم خارطة الطريق في صور تعبر عن اجترار المأساة بسياقات تراجيدية تتجسد في “موكب الآهات” و”الفكر المشرد” الخاضعان للعدوان المتجدد بالضرب والتهشيم من زبر الحديد

“تهشّم إشراقي سمانُ المطارق”

حيث نلمح في هذه الصورة تبادل حالي بين حالة الضوء وحالة الصلب فينزل الإشراق منزلة الجسم الصلب الذي يخضع للهشم والتكسير من زبر الحديد وهو أسلوب ينحو به الشاعر منحى المدرسة الرمزية في المبادلة بين خواص المواد والحواس الخمس .

حيث يستمر في وصف حاله بتكثيف واقعي يصور شبح الحرمان الغارق بين ركام الانتهازية والابتزاز .

“طيفٌ من الحرمان بين الخوافق”

ثم يأتي بخلاصة رمزية تصور ذاته بالعصفور المحاصر بين ثعابين الأرض وطيور السماء الجارحة حيث يعيش حالة الخوف والرعب بجناح مهيض ودمع ساكب .

أنا نوحُ عصفورٍ مهيضٍ جناحهُ
تداعت له في الأفق أعدى اللقالق

حيث جسدت الصورة حقيقة الشاعر ووضعه المتأزم في طوق الدكتاتورية نتيجة التشرد والحصار في ظل الظروف الجائرة التي تلاحقه براً وبحراً وأرضاً وجواً .

ثم يدلف الشاعر يلخص مأساته بلوحة تراجيدية تضخم الكارثة من خلال الحال المفردة من نائب الفاعل في الفعل المبني للمجهول ” خُلقتُ ” حيث ضخمت الحال المفردة هيئة الشاعر حال إعلانه الطوارئ والشروع في الجهاد والمدافعة ضد جيوش الشر التي عبر عنها بالبؤس والعنا .

خُلقتُ جهاداً أدفع البؤس والعنا
ووسمُ الفتى والحظّ وفق التّطابق
فالشاعر في نضال دائم يهيء طوارئ المواجهة لخوض المعارك غير المتكافئة حيث يعبر به حظه العاثر لجج الكوارث يجدف بقارب مشئوم نحو الطوفان .

ثالثا : محور التساؤل عن الشباب

////////////////////////////////////////////

_شبابك ماذا عنه؟
قلت اهدئي فقد
تشظّى شبابي
واكفهرّت دقائقي

ولدت أعاني
الهمّ من يوم مولدي
ومتّ صغيراً
في نيوب العوائق

وجئتُ فقيراً
يسرقُ الليلُ لقمتي
وتخطف فجري
واجماتُ الطوارق

شبابي بأشواك
المفازات ضائعٌ
وعمري يمامٌ
في شراك المضائق

رحى الستّ
والعشرين دارت تسوقها
زوابعُ ألوان الشقا والمآزق

بلوتُ بها الدنيا
ومن عاش فوقها
فلم يكُ عيشي
غير خصمٍ منافق

تنام على عزف
المآسي نوارسي
وتصحو على
عصف الرزايا حدائقي

سريتُ زماناً
فوق أصداء نهدتي
وبُحّت نداءاتي
وشابت مفارقي

ومات النّدى في
كفّه الخبزُ جائعاً
وماتت نسانيسُ
الرّياض العوابق

////////////////////////////////////////////

يفتتح الشاعر هذا المحور بسؤال استعراضي من المخاطبة يتضمن الرؤية الأفقية التي تستوضح الأبعاد الاستراتيجية لماهية الشباب وعلاقاته الاجتماعية في أطر التصريف الفلسفي للرؤى والعواطف في مسيرة الحياة الخاصة .

” شبابك ماذا عنه؟ ” .

حيث يختص السؤال عن الشباب وطفرته نحو الجنون العابر في فلك الخيالات المتوثبة في فترة الشباب .
فالشاعر يوظف سؤال المخاطبةلخلفيات مأساته يعبر به نحو الاتجاه الآخر ينحو بالإجابة تجاه الحدث الملاصق لذاته ليلج من خلال السؤال نحو فلسفة الذات وسبر أبعاد الأزمة الإنسانية التي تحيط به حيث ينثال ممتزجا بالعواطف والآهات ليشخص الألم والحسرة .
ثم يمضي بإدراكه الشاعري موظفاً إمكانياته الفنية لتجسيد تيمات الألم من خلال الاستبطان الموضوعي المتداخل مع شتى العناصر الفنية فالشاعر يلون تجربته بمزيج من الأطياف المتداخلة من خلال القدرة الخيالية والتمكن الأسلوبي حيث يرسم الصورة البارعة ويأتي بالمعنى الطريف ثم يبني أنساق النص بروابط تتآزر بتجاذبات التجاور من خلال نظامي النحو والموسيقى .

كل الصور الفنية في المحور تتآزر بتكامل لغوي وأسلوبي يعمل على إيقاع الكلمات والجمل ضمن المسار الموضوعي الحزين حيث نلمس لدى الشاعر استدعاء تشاؤم المعري وشكوى أبي الشمقمق فهاتان الظاهرتان في النص تبدوان بجلاء من خلال ترجمة الشاعر لظروفه البائسة بإيراد التضاد الظاهر في المطابقة الفلسفية بين الولادة والموت :

ولدت أعاني
الهمّ من يوم مولدي
ومتّ صغيراً في نيوب العوائق

فالشاعر من خلال لغز الولادة والموت يتناص مع أبي العلاء المعري يجدف موج نظرته التشاؤمية متخذا موقفه من ثنائية الولادة والموت كما قال : المعري في البيت التالي :

لا تبكي ميتا ولا تفرح بمولود
فالميت للدود والمولود للدود

حيث يمضي الشاعر يعبر عن هذه الثنائية نتيجة الصدمة الكارثية في واقع الصراع نتيجة تفاقم الأحداث الدامية التي خلطت بين الموت والحياة والأمن والخوف والجوع والشبع حيث انحصرت مقومات الحياة وحلت ظروف الكارثة التي بجحيمها أحرقت واحة العيش الكريم .

وجئتُ فقيراً
يسرقُ الليلُ لقمتي
وتخطف فجري
واجماتُ الطوارق

شبابي بأشواك
المفازات ضائعٌ
وعمري يمامٌ
في شراك المضائق

يأتي الحال ” فقيراً ” من الفعل
” جئتُ ” يضخم الحدث ويظهر الشاعر بهيئة الفقر ويبرز عقدة المعري بجلاء ودون مواربة في سياقات النص المتعددة .

كذلك الجملة الفعلية التالية :

” يسرقُ الليلُ “

تدل على تجدد مأساة الفقر لدى الشاعر نتيجة عوامل تتصل بحدث السرقة حيث يرمز الشاعر بالليل للظلم والاستبداد الجاثم على كاهله والمتربص بجهده وسرقة عيشه .
ثم تأتي الجملة الاسمية التي سوغها بابتداء إضافي إلى ياء المتكلم جسد فيهاشبابه الضائع في مفازات الفتن باستمرار المعاناة وتكاثف التيه بعذابات السفر ووطء الشوك .

“شبابي بأشواك المفازات ضائع”ٌ

ثم أكد الجملة الآنفة بجملة اسمية أخرى ضخم فيها الأهوال المتربصة بعمره بثنائية الأشراك والمضايق .

“عمري يمامٌ في شراك المضائق”

وكلا الجملتين تدلان على ثبات واستمرار تلك الأحوال الكارثية وملازمتها للشاعر في حله وترحاله الأمر الذي يشي بأبعاد
محنته واستبدادها الدكتاتوري .

فانثيال الشاعر المأساوي يرسم بؤرة التضخم التي ترتبط بخيوط المأساة بتعدد أشكالها الكارثية من البؤس والألم والفقر والمسغبة والرعب والخوف والليل والظلم والمآسي والرزايا والمآزق والمضايق والأشواك والمفازات والرحى والعمر والأشراك والزوابع كل تلك الثنائيات رموز ذات مدلولات مأساوية تحيط بالشاعر إحاطة السوار بالمعصم تحاصره برا وبحرا وأرضا وجوا وصحوا ومناما وقفت له بالمرصاد تقض نومه وتترصد خطوه وتعصف بكيانه تسبب له المآزق وتخنقه بالضيق تحسوه بالفقر والجوع وتحيطه بالرعب والخوف .

فالصور المجازية المتجسدة في الاستعارات المكنية التالية :

“تشظّى شبابي “
“اكفهرّت دقائقي”
“يسرقُ الليلُ لقمتي”
“تسوقها زوابعُ ألوان الشقا”

جسدت المأساها بأبعادها الإنسانية والكارثية حيث ربط الشاعر في الصور بين الذات وثنائية الزمن والطقس فعلاقة الذات بالزمن والطقس ضاعف من التقلبات الجائرة ما بين التمزق والشتات والتجهم والاستبداد .
ثم يمضي الشاعر يرسم أبعاد الكارثة التي تحيط به بتجسيد التشوهات التي نالت الحياة الأخلاقية وعملت على تحول سلبي لمسار القيم الخالدة حيث جسم الحدث بمبالغة تحمل الدهشة والمفارقة في الصورة التالية :

مات النّدى في
كفّه الخبزُ جائعاً

فصورة الندى الميت بمفارقة التضاد بين حمل الخبز والجوع ترسم لنا حال الأغنياء الذين استبد بهم الجشع فاستأثروا بالحياة من دون الفقراء فهم وإن كانوا أحياء إلا إنهم في حكم الموتى لأنهم قطعوا قنوات التكافل الاجتماعي وبنوا حياة مستقلة تبوء بالبخل والأثرة ثم يتعاظم المشهد مع أولئك الذين يقتلون ويسلبون لا لشيء سوى قتل البشرية من أجل الثراء فالانتهازية القاتلة تجسد في هذه الصورة بكل أبعادها المرعبة والكارثية .

بعد أن رسم الشاعر الصورة المرعبة للأنانية والأثرة يأتي يرسم تداعيات الذات المتصلة بعزف المآسي بصوتها المشوهة تؤذي نوارس الشاعر بإزعاجها المشئوم .

تنام على عزف
المآسي نوارسي

حيث يكني بالنوارس عن ذاته التي تحاول التحليق بعيدا عن الكارثة لكن الصورة تجسد المحيط الموبوء الذي عمم البلاء أرضا وجوا وصحوا ومناما وهذا التعميم للمآسي يعكس مدى الشؤم والإحباط الذي يعيشه الشاعر .

كذلك التضاد الصوري بين تنام وتصحو كثف المطابقة بين الأحداث حيث يعزو النوم إلى النوارس في حالة عزف المآسي ويعزو الصحو للحدائق في حالة عصف الرزايا في الصورة التالية :

تصحو على
عصف الرزايا حدائقي

فثنائية النوارس والحدائق تصطدمان بثنائية عزف المآسي وعصف الرزايا حيث نجد الشاعر في اختيار رمزي النوارس والحدائق يرمز للتحليق والازدهار وكلا الرمزين يدلان على التفاؤل بالحياة أرضا وجوا غير أن المآسي والرزايا لم تترك له الحال فحاصرته بالتطويق غير مكترثة بحقوق الشاعر المشروعة نتيجة العبث بمقدرات قيم الحق والخير ووأد الحياة .

رابعا : محور التمرد والرفض

////////////////////////////////////////////

أنا يا سنين
الضوء من عالم الدّجى
أقوتُ الكرى
والصاب مُرّ المذائق

بمقبرةٍ تُدعى بلاداً سعيدةً
وكم يخدع
العُشّاق وصفُ المناطق

بها يُدفنُ
الإبداع حيّاً فؤادهُ
ليرقى شرار
الخلق أعلى الطوابق

ويقضي السنا
في مُقلة الفجر غيلةً
وتُغتال شمسُ
النُّبل بين المشارق

ولو كنت في
أرض سوى بلدة الشقا
لكنت أمير القوم رأس الفيالق

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

يوجه الشاعر الخطاب إلى السنين العجاف ذات المدى الأسطوري الطويل الذي خرج عن طبيعة حساب الأيام والليالي إلى الحساب بسرعة الضوء وهذه الإشارة الدلالية تبرز البعد الثقافي للشاعر المتصل بعلم المجرات والنجوم التي تقاس بمصطلح السنين الضوئية .

” أنا يا سنين الضوء ” .

فالأسلوب الإنشائي الآنف المكون من النداء المضاف بدلالته البلاغية التي تحمل السخرية والرفض حيث يولج ثائرا مستنكرا لديجور الاستبداد الذي رمز له :

ب “عالم الدجى”

حيث يقتات من هذا العالم حسو المرارة المتجسدة من ثنائية الكرى والصاب .
حيث ينثال يهجو وطنه بمفارقة مرة تتولد من ثنائية “المقبرة / السعيدة ” .

“بمقبرةٍ تُدعى بلاداً سعيدة” .

حيث يظهر هذا الهجاء المر المدى الروحي المتأزم للشاعر في ظل الظروف القاسية التي تداعت من رعب الحرب وطوق الحصار وتصحر القيم الأخلاقية .
حيث يوجه الشاعر الهجاء والنقد نحو اسم الشهرة التاريخية للوطن حيث أن لقب “السعيدة” الذي اشتهرت به عبر التاريخ لا يغير من همجية الدكتاتورية والظلم الذي تعيشه في الحاضر .

“وكم يخدع
العُشّاق وصفُ المناطق”

حيث جاءت كم الخبرية تضخم الأسلوب الخبري وتضاعف من دلالته البلاغية الدالة على الإنكار والرفض بأسلوب هجائي يحمل مرارة السخرية والتهكم .

ثم يأتي الشاعر بأدلة منطقية تؤيد ما ذهب إليه من هجاء الوطن من خلال التأكيد على اغتيال المبدع ودفنه حيا .

بها يُدفنُ
الإبداع حيّاً فؤادهُ

إضافة إلى تمكين الأشرار والمستبدين من أعلى المناصب والسكن في أعلى الطوابق .

“ليرقى شرار
الخلق أعلى الطوابق”

حيث يجسد الشاعر الحقيقة المرة من خلال هذا التشخيص الدال على المفارقة والدهشة في التناقض الاجتماعي حيث يعيش المجتمع اليمني ما بين الغنى الفاحش والفقر المحرق .

ثم يأتي بالصورة المركبة من ثنائية السنا والفجر تعبر عن رمز الخير والسلام وهو يتعرض للمؤامرة من قوى الشر .

ويقضي السنا
في مُقلة الفجر غيلة

حيث شخصت الصورة الآنفة السنا والفجر في لوحة فنية قربت الضوئي في صورة الحسي حيث نرى الفجر والسنا في شخص يجسد رسول المحبة والسلام يغتال عنوة بتعذيب ممنهج يسلبه بصره ليظل أعمى لا يقدر على تبليغ رسالته لدحر قوى الظلم والاستبداد .
ثم يأتي بصورة أخرى لها نفس المضمون تتآزر مع الصورة الأولى وتؤكدها .

تُغتال شمسُ
النُّبل بين المشارق

وكلا الصورتين تبرزان الخلفية الجاثمة لقوى الظلام وسيطرتها التامة على مقدرات الوطن حيث تتصدر المشهد السياسي وتحكم القبضة على مصادر القرار بأسلوب دكتاتوري تصادر من خلاله الحقوق والحريات وتحارب الأمن والاستقرار حيث ترمي بالعدالة في جحيم الاستبداد .

ثم يصل الشاعر من خلال هجائه المر للوطن إلى حقيقة تلقائية تصدر عن حسرة وألم يؤكد من خلالها الخيار الافتراضي بالوجود خارج الوطن .

ولو كنت في
أرض سوى بلدة الشقا
لكنت أمير القوم رأس الفيالق

حيث يترتب على وجود الشاعر في وطن غير وطنه العزة والكرامة والقيادة وهذا الافتراض الجائز جاء من رصيد المقارنة بين القيم الإنسانية والأخلاقية التي تسود في الأوطان الأخرى وهي مفقودة كليا في وطنه الحبيب .

خامسا : محور الخاتمة .

////////////////////////////////////////////

فحُمّت أنيناً ، واستشاظت مدامعاً
وولّت وآهات الجوى خيرُ ناطق

ولم يبق من طيف اللقا أيّ شاهدٍ
سوى دمعةٍ ثكلى بأحداق نافق

ونزع سرورٍ و احتضارات بسمةٍ
بنسرينةٍ ظمأى وإطراق عاشق

وشحرورةٍ ذابت وإلياذةٍ بقت
تُخلّدُ ذكرانا بفلمٍ وثائقي

////////////////////////////////////////////

لخص الشاعر الحوار في نهاية النص بخاتمة تراجيدية تضخم المأساة بتجسيد الألم والحسرة من خلال المشهد المتهالك للمخاطبة حين ولت عن الشاعر تشيعها حمى الأنين وتشظى الدموع الحرى والآهات الضانية .

فحُمّت أنيناً واستشاظت مدامعاً
وولّت وآهات الجوى خيرُ ناطق

فالحالان ” أنيناً ومدامعاً ” المتولدان من الفعلين ” حمت ”
و” استشاظت ” عملا على ترسيخ الألم وتضخيم الحسرة ورسما هيئة المخاطبة عند مفارقتها الشاعر بتداع يدعو للعطف والشفقة نتيجة عودتها بالخيبة والخسران من نيل أربها مع تلبسها بالأسى والحسرة من حال الشاعر الداعية للرثاء والألم حيث أكد الشاعر الحالين المفردين بحال جملة ترتبط بضمير المخاطبة المستتر في الفعل “ولت ” .

” ولت وآهات الجوى خيرُ ناطق ” .

حيث أضافت الجملة الحالية المتربطة بواو الحال تأكيد تولي المحبوبة وانتهاء الحوار بفشل تام استدعى الصمت والخفوت والدهشة وإسدال الستار على حوار نبش المآسي والحسرات في سطح النص .

ولم يبق من
طيف اللقا أيّ شاهدٍ
سوى دمعةٍ ثكلى بأحداق نافق

حيث تأتي أداة الاستثناء ” سوى” تعمل على استثناء “دمعة الثكل” من ذلك الحوار الذي توارى وراء حجاب الصمت .
حيث كانت دمعة الثكل ثمرة من ثمار الحوار التواصلي بين الشاعر والمخاطبة .
وهنا نطرح سؤالا : هل الدموع النازفة من مآقي المخاطبة جاءت من خيبة المأرب أم من التأثر لحال الشاعر المأساوي ؟ .
من خلال البيتين الأخيرين نستطيع أن نصل إلى خلاصة التوهج الذي أضاءت المشهد حيث يريد الشاعر من الخاتمة رسالة للمتلقي يوحي مضمونها بوجود علاقة حب بين المخاطبة والشاعر وذلك من خلال إيجاز الرسالة الموجهة في خاتمة النص في البيتين التاليين :

ونزع سرورٍ و احتضارات بسمةٍ
بنسرينةٍ ظمأى وإطراق عاشق

وشحرورةٍ ذابت وإلياذةٍ بقت
تُخلّدُ ذكرانا بفلمٍ وثائقي

حيث أكد الشاعر بعد انهمار الدموع الثكلى انثيال الألم الذي أودى بسرور اللقاء إلى التجهم واحتضار البسمة بين ثنائية الشاعر والمحبوبة حيث رمز للمحبوبة ب”النسرينة الظمأى ” وللشاعر ب” إطراق العاشق ” وبين ظمأ النسرينة وإطراق العاشق علاقة مفارقة استولت على الموقف في الفصل الأخير من الرواية حيث أكد الشاعر هذين المشهدين بمشهدين آخرين مزج الشاعر فيهما بين الرمز والأسطورة في أفق العلاقة الثنائية فالمحبوبة “الشحرورة” تقابل “الإلياذة” الشاعر .
حيث صاغ الشاعر المواقف في ختام الرواية بتناص مع الملاحم اليونانية ذات الخواتيم الباكية بتضخيم المأساوية في نهاية المشهد .
حيث أفضت الأحداث المتداعية إلى انفصام العلاقة الثنائية بعوامل خارجة عن الإرادة بين الشاعر ومحبوبته ولم يبق من الأمر إلا إلياذة شعرية سجلت المواقف بطريقة ملحمية تنحو بها تجاه التناص التاريخي مع التراجيديا البكائية لمسرح المأساة في التراث اليوناني .

إبراهيم القيسي
9/2/2018م

شاهد أيضاً

ريمة

دعني اخُطُّ بِنبْرةَ الأقلامِ شِعراً يفوقُ منصّة الإعلامِ دعني اشِيدُ لريمةٍ ورموزها بقصيدةٍ عزَفت بها …

اترك تعليقاً