- نادلة الجبل ( قصة قصيرة )
الشمس باهتة رغم توسطها كبد السماء الملبدة بالغيوم والسحب الصيفية المثقلة بالماء كعادتها في مثل كل مواسم الصيف الماطرة في اليمن…..
توسطنا قلب مدينة( يريم )بسيارتنا الصغيرة الطريق مزدحم بالسيارات والمارة و ( المُوترات) ذات الأصوات الصاخبة…….
وضعت يدي على بطني بعد أن أحسست بنوع من التقلصات الحادة التي تعاودني ، كلما أشعر بنوبةجوع شديدة …..
قلتُ لصديقي: دعنا يارجل نتناول غداءنا هنا ومن ثم نستأنفُ الرحيل …
فرائحة الشواء الصاعدة من شوايات هذه المطاعم تزيد من شهيتي ومنظر الدجاج الذي يدور على قضبان أماكن الشواء التي تمتاز بها هذه المدينة تغريني بشدة ….
أزاح نظارته الشمسية السوداء التي كانت تبتلع نصف وجهه وقال لي بصوت أجش تحل بالصبر ياصديقي . سنتناول طعام الغداء في مطعم المسافرين على سفح الجبل …
كان هو يقود بسرعة فائقة بينما أنا أتمعن من نافذة السيارة على (قاع الحقل) الفسيح وكأنه بساط حِيك كسجادة زمخشرية خضراء اللون تصيبك بالدهشة والذهول لإبداع الخالق وجمال خلقه …
أخذت السيارة تصعدُ رويداً رويداً منحنيات الجبل وكأنها تتلوى كأفعي على منعطفات الطريق ، أحسُ بأننا نصعد نحو السماء قلت في نفسي ما أعظم جبل ( سُمارة) !!..
ولو أن للخالق فقط هذا الجبل لشهدتُ أنابعظمته وقوته وجبروته …
منظر الجبل الطبيعي مُهيب يصيبك بالدهشة والرعب والمتعة في آنٍ واحد ….
مناظر السحب المتناثرة وهي تمر تحتنا من منتصف الجبل تجعلني أحس بأني أحد ركاب طائرة (بويينج) على علوٍ مرتفع …
تمتمتُ في سري .. سبحانك ربي ما أعظم شأنك .. وأدركت بأن هذه الجبال تعتبر من ناطحات السحاب الفريدة في جزيرتنا العربية والعالم أجمع …
كنت غارقاً في التأمل في مناظر تلك القرى المنتشرة على سفح الجبل العظيم التي تبدُو بيوتها وكأنها معلقة في السماء كالنجوم …
بينما كان صديقي منشغلاً بالطريق المزدحم بالسيارات الكبيرة والشاحنات التي تنقل كل شيء بين مدن اليمن عبر هذه الطريق الحيوي الذي يعتبر شريان الحياة في اليمن….
أوقف السيارة جانباً أمام أحد المطاعم الشعبية القديمة في منطقة صغيرة تقع أعلى الجبل، ، بضعة حوانيت صغيرة على اليمين ومثلهم على اليسار على جانبي الطريق جميعُها تعمل على خدمة المسافرين ..
يتكون المطعم من صالة صغيرة تتوسطه ثلاث طاولات حديدية فقط لكل طاولة ثلاثة كراسي متهالكة طرأ على بعضها الصدأ، ومغسلة الأيدي تقع عند مدخل الباب الرئيسي للمطعم ..
يقبع في نهاية الصالة سلم حديدي مثبت أسفله في أرضية الصالة يؤدي إلي غرفة تقع بالأعلى ظننتها غرفة تخص عائلات المسافرين …
وقفت إمرأة عند الباب تبدُو بأنها عدت عتبة عقدها الرابع من عمرها ترحب بزبائِنها الداخلين للمطعم ..
قالت بلهجة جبلية جميلة (حيا وقوى حيا حيا بهم …)
كانت تضع حجابا قرويا على رأسها يقال له (مقرمة)كاشفة عن وجهها ، لم تتوقف عن إبتسامتها الجميلة، إمرأة متوسطة القامة ممتلئة الأرداف ذات عينين واسعتين زينتهما بكحل الأثمد ، ، يتدلى من عنقها سلسال ذهبي في أسفله شكل قلب كُتب عليه لفظ الجلالة قالت والإبتسامة لم تفارق محياها مرحباً بصديقنا الوسيم ..
رد هو بلهجة صنعانية كان يتقنها(كيف أنتو كيف حالكم ).؟
بخير بخير،، ردت هي والإبتسامه مازالت لم تفارق شفاهها. ..
نادت بأعلى صوتها جهزي الغداء لصاحبنا الوسيم. ..
همستُ في أذن صاحبي أين الوسامة منك ياقرد ؟
تجاهل هو سخريتي وظل يحدث المرأة عن الطريق وزحمة السير وهي تسأله عن تأخره المعتاد هذه المرة…
أنهمكا مع بعضهما في الحديث عن صنعاء والطريق والصيف والمطر بينما أنا كنت شارد الذهن للحضات ..
وفجأة وضعت الفتاة أمامنا كيسا من الخبز وصحنا نصف ممتلئ باللحم البلدي ..
كانت فتاة لم تدلف الخامسة عشرة بعد ، تضع على رأسها ( قُرْقُم )كما هي عادت تلك البلاد بأن تضع للفتيات العازبات على رؤسها ملابس تشبه( القراقيش ) تمييزاً لها بأنها لم ترتبط بعد ..
نحيفة القامة مكتنزة الصدر بيضاء ذات تفاحتين على وجنتيها تلبس فستانا زهريا ، يبدُو قليل من صدرها العلوي ضاهرا للعيان ، بينما نهودها بارزة كحبات رومان آن وقت قطافها…..
أحسست بأن تيارا كهربائيا صعقني وهي تقترب مني أشم رائحة اُنوثتها غطت كل روائح الطعام ورائحة المطر والطبيعة الخلابة في الخارج أيضاً …
أمعنت النظر فيها كطفل يتيم رأى لعبة معلقة على دكان رجل بخيل في يوم عيد ….
توارت بعد أن وضعت الطعام أمامنا خلف الجدار الفاصل بين المطبخ وصالة المطعم بينما ظل صديقي يلتهم الطعام ويلوك الكلام مع أمها وأنا مازلت أسترق النظر لعلي أحظى بنظرة أخرى منها..
ربما أحست أمها باضطرابي فقالت (ناقصك شيء ياحالي) ؟؟
هززت رأسي نافياً بينما كنت سعيداً لسماعي وصف (الحالي) الذي تعني به جميل ،، ربما قد أتساوى مع صديقي الوسيم في الدَلال والإهتمام منها. ..
أنهينا غداءنا ودس صاحبي مبلغا من المال في يد المرأة وهو يقول أعذروني عن التقصير هذه المرة (معد جبنا لكم معانا هدية ولا شيء ) ..
ردت لا والله ما فيه تقصير ولا شيء .. قدومكم أكبر هدية.
صعدنا السيارة وقبل أن يدير مفتاح المحرك التفت نحوي وقال كيف الغداء (طُعِييم ) يقصد لذيذ ؟؟
ازحت عود الأسنان من فمي وأصدرت تنهيدة عميقة قائلاً له بل النادلة (طُعيييييم) ياصديقي العزيز …
وأحسست برغبة العودة إلى هنا مرة أخرى. .
- بقلم/عبدالرقيب طاهر – اليمن