- قراءة تحليلية لنص “أضغاث أشجان” للشاعر مختار محرم
- بقلم : إبراهيم القيسي
- أضغاث أشجان” / شعر : مختار محرم
هُناكَ حَيث أضَاعَ البحرُ أموَاجَهْ
والليلُ أرهقَ بالترحالِ أوداجَهْ
وَعَاصفُ الحُبِّ ينأَى عَن مُواجهتي
يَدري ستلفِظُه الأيامُ إِن واجه
وَاليأسُ يَستوطنُ الساعاتِ في سأمٍ
وَيَحتفِي بِي وَلا أَسطِيعُ إِخراجَه
تركتُ قَلبِي وحيدًا دُونَ أوردةٍ
كَنقطةٍ شَابَ فيها صمتُ دِيباجَة
أَسرَى بهِ الحُبُّ من وهمٍ إِلى وَهنٍ
واستفتحَ الدمعُ مِن دُنياه مِعرَاجَه
هُناكَ.. أضغاثُ أشجانٍ تُسَافرُ بِي
إِلى بلادٍ هَواها يَشتَكي الحَاجَة
سألتُها أينَ مني ليلُ أخيِلتِي
وأمسياتٌ بَدَتْ بالحلمِ وهَّاجة
وأينَ أيامُنا الحُبلى بِفرحَتِنا
أَلم تَعُد لانبثاقِ الفجرِ مُحتَاجَة؟
وَأينَ ساحِلُنا الممتدُّ من شفتِي
إلى شِفاهِك؟ قَالت عادَ أدراجَه!
وَأينَ حُلمُ لِقاءٍ كانَ يحمِلُنا
إِذا دَجا الليلُ من (صَنعا).. لِ (قرطاجَه)
وأينَ.. بَل أين.. أرهقتُ السُّؤالَ ولمْ
ألقَ الإجاباتِ.. ملَّ الحرفُ إزعاجَه..
عُودي مَتَى شِئتِ مَا زال الحنينُ إلى
أيامِنا الخُضرِ يُخفِي عنكِ أَحرَاجه
سَأستعيدُك مِن أشلاءِ ذاكرةٍ
شاختْ وأودَعَها الترحالُ ثلاجَة
وأستفيقُ عَلى الصمتِ الذي عَصَفتْ
ضوضاؤه بي وأَبني فيَّ أبْراجَه
وَحدِي سآوِي إلى قلبٍ ليعصِمَني
لا عاصِمَ اليومَ.. أَرسَى البعدُ مِنهاجَه
- شعر : مختار محرم
– إطلالة
الشاعر مختار محرم عندليب حزين وهزار ضان حلق من خلال نصه نحو الأفق الأخضر يتهاصر مع أفنان ذائقته في حقل النص فيقف وحيدا في ملتقى البحار يصارع الأمواج الطائشة ويصد الليل الجاثم يحسو اليأس ويهتز مع ذبذبات الحب النائي .
في نصه زفرة المحزون ورؤية الفيلسوف وتحليق النورس وعمق البحر وفكر الأريب ظل يتأرجح بين اليأس والأمل والإحباط والتفاؤل والمد والجزر والألم والحزن .
تنتابه نوبات الذهول وتيقظه صعقات الصحو يتجاذب مع الحبيبة جرعات الألم والحزن يصارع الهجوم الرباعي البحر والليل واليأس والحب يقدم التساؤل الممزوج بالحسرة والألم يدعو إلى الأمل والعودة إلى حقل الحب والسلام .
نسج النص بأفانين الألفاظ وسبغه بألوان الجمال وطار به في أفق الخيال يتهاصر مع الأشواق في بؤرة الحزن مزج بين الحلم والواقع والفلسفة والخيال رحل نحو التناص ووظف الرمز وأفاد من البيئة وارتشف خلاصة الثقافة يفتق من لفظه اللغة ويهضب من موسيقاه الإيقاع يربط بين الجزئيات وينفح النص بعطر الكلمات .
- أولا : العنوان
“أضغاث أشجان”
أضغاث من ضِغث (بكسر الضاد) وهي ما اختلط من الحشيش من رطبٍ ويابس، أو ما تأخذه بقبضة من الحشيش، فيكون فيها العشب الطويل والقصير، الطّري واليابس والقاسي، وما يصلحُ للأكل وما لا يصلح .
والشجن الهم والحزن مأخوذ من الشجن وهو الغصن المشتبك .
فالعنوان “أضغاث أشجان” نكرة مضافة إلى نكرة حيث اكتسبت النكرة الأولى التعريف من النكرة الثانية وبتآزر النكرتين سوغ الابتداء بالنكرة نتيجة التضايف المعرفي والشاعر في تركيب العنوان يتناص مع القرآن في سورة يوسف في قصة رؤيا الملك وخصوصا في الجزئية “أضغاث أحلام” .
توفق الشاعر كثيرا في اختيار العنوان حيث استطاع من خلاله تجسيد البؤرة الضوئية التي تشد كل الخيوط الدلالية من سطح النص إليه فهو بحكم الرأس من الجسد يعبر عن مضمون النص بصورة كلية تختصر الإيجاز والإجمال .
حيث يعبر العنوان بصورة كلية عن تيمة الهم والحزن المتجسدة في بنية العنوان بثنائية الأضغاث والأشجان وكلا الكلمتين تدلان على التنوع والكثرة والتشابك والاختلاط .
فالشاعر يحسو الألم في خريف غاضب تتقاذفه أمواج الألم ما بين المد والجزر يخطو في محيط موبوء يتكاثف في أفقه ركام الهموم بسحب تختلط وتتشابك مع عواصف الأحزان .
- ثانيا : محاور النص وأبعاده الفلسفية .
تتجلى في النص ثلاثة محاور رئيسية تتحدد بثلاثة اتجاهات استطاع الشاعر من خلالها تجسيد فلسفته الشعرية ورؤاه الصوفية بتضمين النص نبع العواطف وثمار الأفكار حيث تجسدت التيمات الثلاث الرئيسية من خلال إدراك الشاعر وانفعالاته في أفق النص مع الارتباط بالزمان والمكان والهروب من الواقع إلى الطبيعة .
1- صراع الأنا الشاعرة
هُناكَ حَيث أضَاعَ البحرُ أموَاجَهْ
والليلُ أرهقَ بالترحالِ أوداجَهْ
يستهل الشاعر نصه بحكاية موازية تجسد الصراع الأسطوري بين الأنا الشاعرة والقوى الخارجية التي رمز لها بالبحر والليل حيث استخدم اسم الإشارة الدال على المكان ببعده النسبي “هناك” وظرف المكان المبني “حيث” للتأكيد على بؤرة الصراع الزمكانية والتي تتحدد بثنائية الليل والبحر حيث تتوحد ذات الشاعر بهما من خلال استراتيجية البعد الصوفي لتعبر عن الضياع والإرهاق كمؤثرين في انحسار الموج وتعب الأوداج .
فالأنا الشاعرة تمتزج بالبحر في رحلة ضياع الأمواج وبالليل في الترحال المرهق فالامتزاج بالزمكان جسد التكثيف والإيحاء باعتضاد المجاز والاستعارة .
وَعَاصفُ الحُبِّ ينأَى عَن مُواجهتي
يَدري ستلفِظُه الأيامُ إِن واجه
وَاليأسُ
يَستوطنُ الساعاتِ في سأمٍ
وَيَحتفِي بِي وَلا أَسطِيعُ إِخراجَه
يستمر الشاعر يقارب الحدث بأبعاده الصوفية بثنائية
“اليأس / العاصف” وبعلاقتي
“التنائي/ الاستيطان” لمحوري الصراع “الحب / اليأس” فالتضاد الظاهر بين قيم الخير والشر تتحدد باستبطان الصراع الدائر بين الشاعر ومدافعة اليأس والشاعر وجذب الحب وبين المدافعة والجذب تقع بؤرة الصراع المتجسدة في أنا الشاعر في حالة تدافعها مع القلق والتوتر الناتجان من التضاد بين ثنائية الحب واليأس في مشهد التنائي والاستيطان .
تركتُ قَلبِي وحيدًا دُونَ أوردةٍ
كَنقطةٍ شَابَ فيها صمتُ دِيباجَة
أَسرَى بهِ الحُبُّ من وهمٍ إِلى وَهنٍ
واستفتحَ الدمعُ مِن دُنياه مِعرَاجَه
هنا يصل الشاعر بالحدث إلى الذروة باستسلام القلب في نقطة الصمت التي ضل فيها النصير والمؤازر بدليل القلب المنقطع عن أوردته حيث تبلغ الدهشة مداها باستفحال الوحدة المصيرية في رحلة الإسراء ليلا في أفق الوهم والوهن حيث يقع أسير الحب الخادع مستفتحا الدمع في معراج الحياة الصامت .
2- محور التساؤلات
هُناكَ.. أضغاثُ أشجانٍ تُسَافرُ بِي
إِلى بلادٍ هَواها يَشتَكي الحَاجَة
سألتُها أينَ مني ليلُ أخيِلتِي
وأمسياتٌ بَدَتْ بالحلمِ وهَّاجة
وأينَ أيامُنا الحُبلى بِفرحَتِنا
أَلم تَعُد لانبثاقِ الفجرِ مُحتَاجَة؟
ينتقل الشاعر إلى محور التساؤلات ذلك المحور المتجسد بتوجيه الأسئلة من الشاعر إلى ذات المحبوبة “الوطن” حيث يضمن الأسئلة شآبيب الأسى من خلال عصر الروح وصهر الحنايا حيث تصب ذاته أسئلة حزينة تكشف عن مدى المعاناة التي يضطلع بها جراء الأزمة النفسية المتهاصرة مع سقوط الوطن في بؤرة الكارثة .
حيث تشير أضغاث الأشجان إلى التغول الانحرافي للأحزان في حنايا الروح من خلال الصهير المتجدد بمزيد من الأسى والألم .
فاللقاء الصحفي بين ثنائية الأنا الشاعرة و”ذات الوطن” تم من خلال توجيه الشاعر لوابل من الأسئلة الموسومة بالدهشة والرفض والمحملة بمضامين الألم والحسرة نتيجة غياب الزمن السالف بأيامه ولياليه حيث تؤكد الأسئلة ارتحال الأحلام واحتراق السعادة .
وَأينَ ساحِلُنا الممتدُّ من شفتِي
إلى شِفاهِك؟ قَالت عادَ أدراجَه!
وَأينَ حُلمُ
لِقاءٍ كانَ يحمِلُنا
إِذا دَجا الليلُ من (صَنعا).. لِ (قرطاجَه)
وَأينَ قاربُنا الطَّافي عَلى شغفٍ
نهيمُ فِيهِ.. أجَابتْ صَار درَّاجة!
وأينَ.. بَل أين.. أرهقتُ السُّؤالَ ولمْ
ألقَ الإجاباتِ.. ملَّ الحرفُ إزعاجَه..
نلحظ صمت المحبوبة عن الإجابة عن كل الأسئلة المطروحة من قبل الأنا الشاعرة ما عدا إجابتها الطارئة باقتضاب عن السؤال الثالث وهذا يرسم فجيعة الكارثة التي أحدقت بالمحبوبة فهي في حالة ذهول من جراء الصدمة .
كانت الأسئلة الموجهة تحمل دلالات لوعة الحنين إلى الماضي يخالطه شيء من التعجب والدهشة عن وصول الحال إلى ما وصل إليه كما تدل على التمني عن انحصار الكارثة والعودة إلى الحلم واللقاء وامتداد جسور التواصل المقطوعة من خلال مد العواطف وجزرها على ساحل الحب والجمال .
عندما نلحظ الإلحاح المستمر في إلقاء الأسئلة من قبل الشاعر إلى المحبوبة على الرغم من صدمتها وذهولها … فذلك يرجع إلى استبطان الشاعر للعتاب واللوم حيث يرى اشتراكها بالمساهمة في تفاقم الحال التي وصلت إليها نتيجة ارتداد ذاتها الإرادي عن الحب والسلام .
والشاعر بهذا المنحى يوظف الرمزية بتمكن من حيث الأداء المحترف فالشاعر بكارزميته يتقمص المشاهد ويسقطها في أفق الدلالة حيث تومض الحروف في تجربته بإشارات ملونة تتعدد بتعدد الوميض الشاعري في أفق النص .
3- محور العودة
عُودي مَتَى
شِئتِ مَا زال الحنينُ إلى
أيامِنا الخُضرِ يُخفِي عنكِ أَحرَاجه
سَأستعيدُك مِن أشلاءِ ذاكرةٍ
شاختْ وأودَعَها الترحالُ ثلاجَة
وأستفيقُ عَلى
الصمتِ الذي عَصَفتْ
ضوضاؤه بي وأَبني فيَّ أبْراجَه
وَحدِي سآوِي
إلى قلبٍ ليعصِمَني
لا عاصِمَ اليومَ.. أَرسَى البعدُ مِنهاجَه
على الرغم من محتوى اللوم والعتاب الذي وجهه الشاعر إلى المحبوبة في محور التساؤلات نراه هنا يمضي بإصرار عجيب إلى عودتها إلى الحياة والحب والسلام يفتح أمامها باب الأمل على مصراعيه ويرسم الأفق بديباجة خضراء تبسم بإغراء حيث يزيح من أمامها كل الحواجز ثم يؤكد عمليات الإنقاذ بالفعل المضارع “سأستعيدك” المذيل بالسين للإغراق في دلالة التصميم للعودة بالمحبوبة لأيام المجد والازدهار كذلك تعبيره بالفعل المضارع “أستفيق” يدل على صحوه من صدمة الدهشة ليفكر باتزان في المخرج الأسطوري لاستنقاذ المحبوبة من حفرة النار حيث يأتي البيت الأخير في القصيدة يلخص لنا سفينة النجاة .
“وَحدِي سآوِي
إلى قلبٍ ليعصِمَني”
حيث رمز الشاعر بالقلب للحب حيث اعتبر الحب هو المنقذ من الانحدار من شفا الجرف وهي دعوة قرآنية للخروج بالأمة من هاوية الحقد والاقتتال حيث
يتناص مع قصة ابن نوح في نفي العصمة عن الغرق لكل من لا يعتصم بالحب .
- ثالثا : وحدة النص والعلاقات الزمكانية
النص وحدة عضوية تجسد ذات الشاعر بتجلياتها الإنسانية وأبعادها الرومانسية تمتزج بالنص فكرا وعاطفة ولفظا وموسيقى فالشاعر يعزف جوقة حزينة تردد صدى الانفعالات وتدفق هدير العواطف بأسلوب هادئ يبث اللوعة ويوقع آهات الحنين .
يقف في شاطئ المأساة يجدف قوارب الحسرة والألم يرحل في أفق مغلق تهاصره رياح الغربة وتيارات المحيط .
تجلت الأنا الشاعرة في أفق النص تصارع الأحداث المحيطة المتجسدة في رباعية :
البحر / الليل / عاصف الحب / اليأس .
تسرد الأحداث برواية ملحمية تتأرجح على محور الالتفات بين ضمير الغيبة والمتكلم بفلسفة تتهاصر مع الخيال في لوحة الصورة بلونها الزيتي المتوامض مع شلال العاطفة .
امتازت الأنا الشاعرة في النص بتفرد احترافي تتحرك في فلك النص بتدوير ديناميكي للحزن من خلال انفرادها بصراع أضغاث الأشجان وتجذرها في عمق كثافة النص حيث تتخذ محور الدوران مسرحا للصراع مع رموز الأحداث في الزمكان .
مافتئ الشاعر يراقص الحزن والألم يجدف الأحزان في محيط النص ينتقل من محور إلى آخر في ثلاثية الموضوع بتقنية مبادئ الرومانسي الدائر حول مقصد الأنا الشاعرة حيث يتحدث
“بروست عن تجسيد النص بقوله :
“الكتاب هو نتاج أنا آخر غير الذي نكشف عنه في عاداتنا في المجتمع … فإذا ما أردنا أن نسعى إلى فهم هذا الأنا فلن نستطيع الوصول إليه إلا في أعماق أنفسنا حين نحاول إعادة خلقه في ذواتنا ” .
كما نلحظ ارتباط الأنا الشاعرة بعلاقة مع العالم من خلال تجسيد الزمكان فالشاعر يعيش علاقة ثنائية مع البيئة المحيطة البحر / الساحل / الليل / الفجر / الأيام / الساعات .
يقول : جورج بوليه :
” قل لي كيف تتصور الزمان والمكان وتفاعل الأسباب أو الأعداد أو قل أيضا كيف تقيم الصلات مع العالم الخارجي وسأقول لك من أنت ” .
كذلك يعقد الشاعر علاقة مع ثنائية الخيال والحلم
وهي علاقة مزدوجة تبادلية بين الذات والموضوع وبين عالم الوعي وعمل المبدع وذلك ما نجده متجسدا في محاور النص الثلاثة فالشاعر وظف الخيال والحلم من خلال إدراك الذات لمحتوى الأزمة النفسية وتدوير تيمة الحزن والألم ثم استدراك الانقاذ من الأزمة بركوب قارب الأحلام برؤية استثنائية تفتح باب الأمل والتفاؤل من حيث إصرار الأنا الشاعرة ورفضها لأوضاع الانتكاسة وتمردها على الواقع الراهن حيث تجلت تعيد الرؤية التفاؤلية لاستنقاذ المحبوبة الوطن من خلال محور العودة في خاتمة النص الوارف .
يقول : “دانييل برجيز”
الفنان إذ يكشف عن نفسه في عمله فهو أيضا يشكل نفسه بواسطته … حيث … يسلم بوجود علاقة مزدوجة تبادلية بين الذات والموضوع والعالم والوعي والمبدع وعمله ” .
كذلك نلمس الإجراء الموضوعاتي عند الشاعر من خلال علاقات التشابه التي تحيل إلى خيال موفق من خلال المجانسة بين الخيال والصورة والصورة والدلالة الواقعية من حيث الكشف عن تماسك ظاهر النص وباطنه بواسطة العلاقات المجازية والصلات السرية بين عناصره المبعثرة .
كما عقد الشاعر الصلات المعرفية بين الواقع والخيال والمعنوي والحسي واليأس والتفاؤل والحزن والفرح والاستسلام والرفض بتغييره لمواقع التصورات ولأدوات القياس بين الحقول المعرفية حيث عقد الصلات الجديدة في سطح النص بين العناصر المنفصلة بمقاربة فنية تنسج المزاوجة والتلاحم وإعادة توزيع المفاهيم بصورة جديدة داخل حقول النص .
حيث نجد وعي الأنا الشاعرة تعامل مع الحدث داخل الموضوع بإدراك إيجابي نظم الحقول وصفق جناح الانطلاقة نحو شاعرية رحبة تجسد ثنائيتي المقصدية والمقبولية في إطار المرسل والمتلقي .
- رابعا : الثقافة والرمز
من خلال استنطاقنا لخلفيات
النص وواجهاته نعثر على مرجعيات ثقافية كثيرة تآزرت في بناء النص العاملي والموضوعاتي فالشاعر بأبعاده الثقافية استطاع أن يطعم بنى النص بمرجعيات رمزية وأسطورية تتكئ على الثقافة الإسلامية والبيئة الزمكانية واللغة والتاريخ والطبيعة والمناخ مع استعمال حداثي لبعض الألفاظ المعاصرة حيث استطاع شحنها بدلالات رمزية تعبر عن مضامين ودلالات الشاعر بأبعادها الاستراتيجية .
– البحر
وظف الشاعر رمز البحر بازدواجية ثنائية كما ورد في معرض استهلال النص .
“هُناكَ حَيث أضَاعَ البحرُ أموَاجَه”
فالبحر في الدلالة الأولى عنصر خارج الذات يرمز للقوة والطغيان والتي بدورها أثرت سلبا على الأنا الشاعرة فأفقدتها البعد الموجي الذي يتيح لها المد والجزر في إطار الحياة بإسقاطات حرية الحركة في الوطن ذهابا وإيابا .
وهو في الدلالة الثانية معادل موضوعي للأنا الشاعرة حيث شبه الشاعر ذاته بالبحر على سبيل الاستعارة التصريحية وهنا البحر يرمز لعظمة الشاعر الذي فقد حريته وحركته نتيجة افتقاد الأمواج القائمة بالمد والجزر باستئناف دينامكي متجدد وهذه الدلالة الرمزية جسدت واقع الشاعر المسلوب من حريته وحركته في بؤرة تداعي الوطن .
– الليل
رمز الشاعر بالليل الوارد في الشطر الثاني من بيت استهلال القصيدة .
“والليلُ أرهقَ بالترحالِ أوداجَه”
رمز بالليل للظلم والاستبداد وللمتاهة التي ضلت فيها معالم الطريق حيث يسقط الشاعر رمز الليل على غربته ورحلته الطويلة في البعد عن الوطن نتيجة التداعي الأمني وتغول الحروب حيث أصبح ضحية من ضحايا الاستبداد والحرب يمكث ساربا في رحلة الغربة بدون خارطة طريق .
– القلب
“وَحدِي سآوِي
إلى قلبٍ ليعصِمَني”
اتخذ الشاعر القلب رمزا لسفينة الانقاذ ليعبر به عن دلالة نصية حيث يرمز بالقلب للحب كون الحب سفينة الانقاذ من الغرق في طوفان البغض والكراهية حيث يتناص في رمزيته مع سفينة نوح بثنائية القلب / السفينة بعلاقة العصمة من الغرق مع الاختلاف بين مادية الطوفان هناك ومعنويته هنا حيث يجسد القلب أسطورة للنجاة تتناص مع سفينة نوح وقصة ولده العاق لتأكيد طلب النجاة بروكب سفينة الحب وكل واحد خارج تلك السفينة غير معصوم مصيره سيكون مصير ابن نوح .
لا عاصِمَ اليومَ.. أَرسَى البعدُ مِنهاجَه
لقد أجاد الشاعر توظيف القلب في هذه الدلالة الرمزية حيث جسد واقع الطوفان المعاصر ورسم كيفية النجاة منه بركوب سفينة القلب التي ترمز للحب والسلام والتناص الحاصل بين سفينة الشاعر وسفينة نوح يرسم لنا قدرة الشاعر بثقافته الدينية والتاريخية في معالجة الأفكار في إطار ضرب الأمثال وموازاة الحدث المعاصر بالحدث التاريخي ليتم التوحد بين الماضي والحاضر في أفق التجربة لاستخلاص العبر والعظات عن طريق الفلسفة الشعرية وإيحاءاتها المكثفة .
وظف الشاعر أيضا الكثير من الرموز الأخرى في سطح الناص وسأشير إليها باختصار كالتالي :
– العاصف : رمز زعزعة الحب واضطراب العواطف في زمن الحرب والكراهية .
– اليأس : رمز القنوط من إصلاح الأحوال الراهنة .
الديباجة : رمز البشاشة المحاطة بالتجهم والكسوف .
المعراج : أسطورة السمو وبلوغ المستحيل .
أضغاث : رمز الأحزان المختلطة والمتشابكة بكل ألوانها .
الأيام الخضر : رمز الحب والسلام والأمن والاستقرار والرقي والازدهار .
ثلاجة : رمز برودة المشاعر وتبلدها .
الحرف : رمز التجربة والإبداع .
الدمع : رمز الفقد والثكل والحوادث والنكبات .
- خامسا : استراتيجية التناص
التناص هو معيار العلاقة المتبادلة بين النصوص في المقام الأول ويكون التناص داخلي بين نصوص المنتج نفسه حيث تفسر نصوصه بعضها بعضا أو بين نصوص عدد من المنتجين فيكون خارجيا حيث يعرفه الدكتور محمد مفتاح بقوله :
“التناص تعالق نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة ويشير إلى نوعين من التناص” .
– “المحاكاة الساخرة التي يحاول كثير من الباحثين أن يختزل التناص إليها” .
– “المحاكاة المقتدية التي يمكن أن نجد في بعض الثقافات من يجعلها هي الركيزة الأساسية للتناص” .
حيث نلحظ في تجربة الشاعر تجسيدا لتناص المحاكاة المقتدية من ناحية إيغاله في الثقافة الإسلامية وهصر الأثر الدلالي الموظف في سطح النص حيث تشابك النص مع بعض القصص القرآني الموظف بتقنية الشاعر لتعميق الدلالة في سياق النص وتكثيف الإيحاء المتكئ على القصة المرمزة للإدهاش والاستثارة .
نجد محاكاة الشاعر المقتدية تتهاصر مع قص الملك لرؤياه في سورة يوسف ورد حاشيته “أضغاث أحلام” في مقابل عجزهم عن تعبيرها نتيجة تعددها واختلاطها فالشاعر يحاكي تلك الدلالة الموضوعية بتجسيد “أضغاث أشجان” التي تتناص مع النص القرآني لتجسيد دلالة التضمين المعنوي في تعدد الأشجان واختلاطها حيث خرجت عن سيطرة الشاعر وتحكمه في إدارتها بما تحمل من تمرد واستخفاف .
هُناكَ.. أضغاثُ أشجانٍ تُسَافرُ بِي
إِلى بلادٍ هَواها يَشتَكي الحَاجَة
أما التناص الثاني فيتعلق بسورة الإسراء حيث يتناص الشاعر مع حادثة الإسراء والمعراج ” سبحان الذي أسرى بعبده ليلا … “
حيث يأتي التناص في تجربة الشاعر يجسد الدلالة اللفظية للإسراء حيث يحاكي الأسلوب القرآني في ثنائية “ابتداء الغاية وانتهائها ” “من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ” بينما أسرى الحب بالشاعر من وهم إلى وهن
حيث استكمل التناص تجاوزا للآية في قصة الإسراء إلى قصة المعراج المذكورة في الحديث برمزيتها الخالدة حقيقة وأسطورة .
أَسرَى بهِ الحُبُّ من وهمٍ إِلى وَهنٍ
واستفتحَ الدمعُ مِن دُنياه مِعرَاجَه
أما التناص الثالث فيتجسد في قصة نوح وابنه وأمر السفينة التي استقل بها نوح ومن معه من المؤمنين حيث يتناص الشاعر مع مقتضى القصة من حيث تجسيد الوسيلة والاستجابة لأمر القائد وما يترتب على العصيان من التماهي في المعصية وركوب موجة الغرق .
حيث اتخذ الشاعر القلب سفينة للنجاة كونه رمزا للحب والسلام في زمن طوفان الكراهية والحرب ودعا للاعتصام بالحب وكل من هو خارج دائرة الحب سيحترق بالطوفان .
وَحدِي سآوِي إلى قلبٍ ليعصِمَني
لا عاصِمَ اليومَ.. أَرسَى البعدُ مِنهاجَه
- سادسا : الخيال والصورة
الخيال تشكيل سحري لايقدر عليه غير الفنان المبدع وهو على تعريف علي جواد …
” أن تخلق من أشياء مألوفة شيئا غير مألوف في الفن عموما ” .
وهو العملية التي تؤدي إلى تشكيل مصورات ليس لها وجود بالفعل والقدرة الكامنة على تشكيلها .
والخيال عند كانت :
” … أجل قوى الإنسان وأنه لا غنى لأي قوة أخرى من قوى الإنسان عن الخيال وقلما وعى الناس قدر الخيال وخطره ” .
وعند وردزورث :
” … العدسة الذهبية التي من خلالها يرى الشاعر موضوعات ما يلحظه أصيلة في شكلها ولونها ” .
فالخيال هو القدرة على تجريد علاقات أساسية عامة وعزلها تؤول إلى الجمع بين أشياء شديدة الاختلاف ظاهرا .
وعند كولردج : هو ” … القوة السحرية التي توفق بين صفات متنافرة تظهر أشياء قديمة مألوفة بمظهر الجدة والنضارة إنه اجتماع حالة عادية من الأنفعال بحالة غير عادية من النظام ” .
تآزرت قوى الخيال لدى الشاعر ورسمت لوحات فنية تترابط في سطح النص بعلاقات مجازية تربط بين الأصل والصورة توحي بالأبعاد الفنية في أفق النص وترفد المضامين بمقاربات معنوية تتآلف فيها الكائنات والزمان والمكان والطبيعة والحسي والمعنوي باستراتيجية التقريب بين المجرد والمحسوس في إطار الصياغة البنائية الجديدة .
أضَاعَ البحرُ أموَاجَهْ
صورة تألفت من الحدث والفاعل والمفعول به جسدت الاستعارة التصريحية المتجسدة في المشبه به البحر وحذف المشبه الشاعر حيث جسدت السكون وفقد الحركة فلم يعد هناك مد ولا جزر حيث جسدت الصورة سكون الشاعر وتجرده من الحركة ذهابا وإيابا نتيجة الأحداث الخارجة عن إرادته .
ثم يعقد خيال الشاعر صورة يشبه فيها الحب بالمناخ الغاضب حيث تتكون عناصر الصورة :
“عَاصفُ الحُب”ِّ .
من ثنائية “الحب / العاصف” وهنا يربط الشاعر بين المجرد والحسي عن طريق التقريب للحب الهائج في النفس بمناخ الأعاصير الغاضبة .
ثم يرسم الصورة “ستلفِظُه الأيام”ُ
بعلاقة مجازية تجسد الزمن في صورة حيوان جشع يبلع ويلفظ الأحداث باطراد .
أما الصورة العبقرية :
“شاب فيها صمتُ دِيباجَة” .
فهي استعارة رمزية جسد فيها الشاعر صفة الشيب للصمت وهي صورة سريالية تتهاصر مع الرمز بتأويل استراتيجي ينحو بالمضمون بعيدا عن الجزئيات والمفردات المؤلفة للصورة حيث تكتظ الصورة بتطرف دلالي يتكئ على تضايف معنوي يرسم صورة كلية بإيحاء إشاري عن وقفة خيالية للشاعر تجمع بين الجمال والجلال والخيال والدهشة في ظرف أسطوري في طقس الحياة العاصف بالاستبداد والدكتاتورية .
والصورة :
“اليأسُ يَستوطنُ” .
يجسد فيها الشاعر اليأس بظالم مستبد يستعمر كيانه ويستوطن مشاعره .
ثم الصورة : “استفتحَ الدمعُ ” .
تجعل للدموع حركة وحدث تنبئ عن استفتاح انطلاقة نحو معراج الحزن والألم .
كذلك الصورة : “أَسرَى بهِ الحُبُّ” .
يجسد الحب براقا يطير ويسري بحركة خفيفة تسارع الطيران في ليل الحب الأسطوري .
كما يجسد في الصورة :
“أضغاثُ أشجانٍ تُسَافرُ بِي” .
التشابك الأسطوري بين الألم والحزن وتجسيد تلك الأخلاط من الأحزان في صورة مركبة فضائية تستقل متنها ذاكرة الشاعر لتعبر بها الأجواء من مكان إلى آخر .
كما يجسد الزمن في الصورة :
” أيامُنا الحُبلى” .
بامرأة حامل حيث قرب الزمن في صورة حسية تتهاصر مع الحدث بانتظار مخاض ما تحمله من الأحداث المتوالدة عبر جزئيات الزمن من الثانية إلى الساعة ومن اليوم إلى الأسبوع ومن الشهر إلى السنة .
كما يخلع مشاعره على الأفكار المجردة من الألفاظ والأساليب كما في الصورة :
” أرهقتُ السُّؤالَ” .
وفي الصورة :
“ملَّ الحرفُ إزعاجَه”
حيث جعل السؤال يحس بالإرهاق والحرف يمل من الإزعاج كما يضفي على الزمن صفة الحقل والبستان من خلال الصورة :
“أيامِنا الخُضرِ”
ويجسد الذاكرة في صورة حسية تجمع بين الأشلاء والشيخوخة في الصورة :
“أشلاءِ ذاكرةٍ شاخت” .
وهي صورة تجسد تشتت الأفكار وجهد الدماغ في تدوير الأفكار ودورانها في فلك الهموم والأحزان حيث قربت الذاكرة في صورة حسية تتأثر بالأحداث وتدلف إلى الشيخوخة والوهن . ويجعل من القلب سفينة للنجاة من الغرق في الصورة :
“سآوِي إلى قلبٍ ليعصِمَني” .
حيث يستعير القلب للحب الذي يعصم الناس من الغرق في بحر الحرب والكراهية .
لقد جاءت كل الصور في سطح النص تخدم الموضوع من حيث الفكرة والعاطفة والتلبس بالجو الرومانسي تتهاضب في سياقات الألفاظ والجمل بتيمات الحزن والألم حيث ترسم الطقس الحار المؤثر في تجربة الشاعر واختلاجات عواطفة بشكل انسجامي يترابط بتداخلات جزئية تمثل ومضات الفن بطيف يرسم الأبعاد التراجيدية في مساحة اللوحات بانسجام سيكلوجي وسيميائي ينطلق من بؤرة الشاعر ليستقر في أفق النص متحدا بالشكل والموضوع والزمان والمكان والحس والمعنى .
- سابعا : الترابط الموسيقي والبنائي
استطاع الشاعر من خلال بنية النص الإبداع في تجسيد هيكل البناء الفني من حيث الإيقاع الخارجي للبحر البسيط “مستفعلن فاعلن” مع قافية الجيم المفتوحة المسبوقة بألف الردف والمختومة بهاء الوصل المقيدة بالسكون والإيقاع الداخلي المتجسد في استئناس الألفاظ وتركيب الجمل بعيدا عن فساد المعنى والخلل في التركيب اللغوي .
حيث جاءت القيم الصوتية والجمل الخبرية والإنشائية والأساليب البلاغية والربط النحوي ورومانسية الخطاب تتآزر مع هندسة البحر البسيط بإيقاع كلي مترابط من بداية النص حتى نهايته .
إضافة إلى الوحدة العضوية وتيمات الحزن والألم والمنحى الدلالي كل هذه الحقول الرحبة شكلت مع موسيقى البحر البسيط تآزرا إيقاعيا يتصاعد بموجات مترددة في مجرى إحداثيات النص حيث ترتفع وتنخفض بإجراءات ترتبط بسيكلوجية الشاعر وانفعالاته من خلال إدراك الأبعاد الفنية في سطح النص .
مافتئ الشاعر يبادل بين صيغ الخطاب خبرا وإنشاء وبين الجمل الاسمية والفعلية وبين المفردات اسما وفعلا وحرفا وبين تشكيلات الكلمات إعرابا وبناء تقلب بين البساطة والوضوح والتكثيف والعمق والإيجاز والاطناب والاستعارة والتشبيه ركب قارب التعبير وأبحر نحو التجريد يدفق المشاعر ويمطر المضمون ويكسو النص بهاء الكلمة وسلاسة التعبير وجمال الديباجة .
ثامنا – الترابط النحوي
يربط الشاعر بين جزئيات النص بروابط نحوية تحدد الدلالات وتترجم المضمون حسب العوامل المؤثرة في تشكيل نهاية الكلمات حيث يتآزر الربط النحوي مع جزئيات النص بعلاقات تحفل بنظرية النظم وآلياتها النحوية واللغوية والبلاغية بنظام استراتيجي يحدد اتجهات البنى وماهيتها بثنائية الدال والمدلول في سطح النص .
عندما نرصد بعض القيم النحوية في سطح النص نحصل على دلالات إشارية تومض بإيحاء استطرادي يجسد وجهة المعنى وتجلياته في عمق الشاعر ووضوحه .
فاسم الإشارة “هُناكَ” بمداه المتوسط مبني في محل نصب على الظرفية المكانية تكرر مرتين في سطح النص مرة يشير إلى ضياع الأمواج ومرة يشير إلى “أضغاثُ أشجان” وفي كلا الحالتين يجسد المكان بثنائية “الضياع / الأشجان” وهذه الدلالة تعكس إدراك الشاعر الواعي بمكان الحدث واستطراد انعكاساته من خلال استبطان الشاعر لرحلة الضياع وحمل روافد الحزن والألم .
استخدام الشاعر لأسلوب :
” مَا زال الحنين”
يؤكد استمراية الأشواق المتهاضبة في فضاء النفس ووبل الخواطر لسواجم الآهات المختزنة في الشعور تنحو بمسافات عابرة نحو الحبيبة ‘الوطن” .
جاء أسلوب لا النافية للجنس في الجملة :
“لا عاصِمَ اليوم”َ..
ينفي جنس العصمة كليا خارج إطار سفينة القلب وهو تأكيد لرسم سبيل النجاة في خطاب الشاعر بامتثال الاعتضاد بالحب للنجاة من طوفان الحرب والكراهية .
تأتي الحال المفردة ” وحيداً ” في الجملة :
“تركت قلبي وحيدًا”
تجسد انفصام الشاعر الروحي والجسدي عن المحبوبة حيث تؤكد وحدة الانفراد استبداد المحبوبة وبعدها عن التماس نتيجة التداعيات الكارثية .
يأتي الفعل المضارع المرفوع
“سَأستعيدُك”
مذيلا بكاف خطاب المحبوبة مسبوقا بالسين الدالة على الاستئناف يرسم خطة الشاعر المستقبلية لإعادة المحبوبة من الأسر واستنقاذها من طوفان الحرب والكراهية وهو هدف قومي يجسد رؤية الشاعر ومبدأه النبيل .
تأتي الجملة :
“ولمْ ألقَ الإجاباتِ”..
تؤكد الصمت المخيم على المحبوبة وسكرة الذهول من صدمة الكارثة الأمر الذي أدهش الشاعر وزرع في خاطره الحيرة والألم .
كذلك تأتي الجملة :
“من (صَنعا).. لِ (قرطاجَه)”
تصف انقطاع وسائل الاتصال بين بلده والبلدان العربية حيث يرمز بالثنائية “صنعاء / قرطاجة” للمحلي والإقليمي نتيجة طوفان الحرب وضرب طوق الحصار الجائر .
تاسعا : استراتيجية الخبر والإنشاء
الخبر والإنشاء ثنائية استراتيجية في بنية النص حيث يسبران التجربة بتنوع أساليب الخطاب يعكسان قدرة الشاعر وإدراكه المعرفي في توظيف الجمل خبرا وإنشاء حيث يسبغ الجمل بإشارات دلالية وعمق بلاغي .
فالشاعر يرسم الخارطة المعرفية للجمل في سطح النص بإدراك محترف حيث تأتي الأساليب الخبرية والإنشائية موزعة في سطح النص بخطة استراتيجية حسب الحاجة دون تكلف أو استدعاء .
وحين نمعن النظر في توزيع الجمل الاسمية الدالة على الثبوت والاستمرار في سطح النص نجدها توزعت بأبعاد مختلفة ترسم المسافات بمقياس فني يخدم ثنائية الإيقاع والدلالة .
َاليأسُ يَستوطنُ الساعاتِ
الليلُ أرهقَ بالترحالِ أوداجَه
وَعَاصفُ الحُبِّ ينأَى عَن مُواجهتي
وَحدِي سآوِي إلى قلبٍ ليعصِمَني
فالجمل الاسمية الآنفة تؤكد وسيلة الإخبار في تجسيد الفائدة وتزويد المخاطب بالحكم الذي تضمنته الجملة من خلال الدلالة البلاغية التي تنحو بالخطاب إلى الشكوى وتحمله مرارة الحزن والألم .
أما الجمل الفعلية فقد توزعت بين الماضي والمضارع كالتالي :
وأستفيقُ /تركتُ / سَأستعيدُك / أرهقتُ / شاختْ / أضَاعَ / سألتُها
/ استفتحَ / أَسرَى / ملَّ .
ذلك المزج بين الماضي والمضارع عكس امتزاج الأحداث في أفق الخطاب لدى الشاعر فثنائية الماضي والحاضر تعمل باستراتيجية تجسد الأحداث من خلال إدراك الخسارة والربح فالماضي بسلفيته الخاسرة يمكن تعويضه بحاضر ومستقبل الفعل المضارع من خلال رؤية الحاضر الرابح والمستقبل المزهر من حيث التعامل الإيجابي مع الأحداث بإطفاء الحريق ومعالجة الجروح وسد الثقوب التي خلفها البغض والكراهية وهذا المنحى الفلسفي لتوظيف الجمل الفعلية داخل سطح النص يدل على نبل الشاعر من حيث توظيف تجربته الرومانسية في إطار الواقع بابتعاده عن الاجترار السلبي حيث يعمل على مجارات الأمور وإصلاحها من منظور أخلاقي يخطو بالوطن والإنسان نحو الإصلاح والتفاؤل .
أما الجمل الإنشائية فقد جسدت ما يستكن في نفس الشاعر من الحسرة والألم تصور الحالة السيكلوجية للأنا الشاعرة في حالة الذروة المأساوية المتولدة من خسارة الوطن والإنسان .
وأينَ أيامُنا الحُبلى
أينَ مني ليلُ أخيِلتِي
وَأينَ ساحِلُنا الممتدُّ إلى شِفاهِك؟
وَأينَ حُلمُ لِقاءٍ
وأينَ.. بَل أين.
عُودي مَتَى شِئت
نلحظ في الأساليب الإنشائية الآنفة تغلب الاستفهام على ما سواه من العناصر الإنشائية ماعدا فعل الأمر الطلبي “عودي” وتغلب الاستفهام مع تكرار الأداة “أين” الدالة على المكان يفيد في تحديد الأزمة التي يعيشها الشاعر من حيث إبهام الحدث وتغول المكان والشاعر في كلا الحالتين يبحث بإصرار ليصل إلى إجابة مقنعة في إطار التكرار اللفظي المفيد لتأكيدات الأزمة النفسية التي يعيشها من خلال ضبابية الحدث واستتار الأسباب التي عملت على تسارع تداعي الوطن نحو الكارثة حيث يضع الشاعر الوطن معادلا موضوعيا يتوجه إليه بالأسئلة في ألم وحسرة وهذا التجسيد الفني يضعنا أمام قدرة الشاعر في إدارة الأحداث وتجسيد آلياتها في أساليب متنوعة تعرض مواقف الصراع باحتراف أسلوبي يتمحور بين الخبر والإنشاء والسؤال والجواب .
حيث يقف بعد استطرادات النقاش مع المحبوبة “الوطن” بالصحوة من ذهوله ليستدرك ما آلت إليه المحبوبة فيبادر بإجراءات عاجلة لاستنقاذ محبوبته مهما كلفه الثمن حيث يخاطبها بفعل الأمر الدال على الطلب “عودي” حيث يحمل الفعل مشروع إنقاذ تجلى في المحور الأخير من النص استطاع الشاعر من خلاله استيعاب الحدث بعد الصحوة من ذهوله فرسم خارطة الانقاذ بأبعادها الروحية والإنسانية باستشراف تفاؤلي يضيء بومضات الأمل من خلف الحروف .
- 2017/1/22م
إبراهيم القيسي