نستطيع أن نقول أن الولادة الحقيقية للأغنية اليمنية كانت بعد قيام ثورتي 26 سبتمبر و 14 اكتوبر في كلٍ من شطري اليمن سابقاً..حيث هيأت عوامل الأمن والإستقرار والتقدم المناخ المناسب لتطور جميع فنون الآداب ومنها فن الغناء والطرب وكل المجالات الإبداعية والثقافية عامة ، رغم أن ارهاصات ومخاضات تلك الولادة بدأت منذ عهد مبكر جداً يعود إلى القرن الحادي عشر الهجري وما تلاه.. مع ظهور أطياف كلٍ من الشعر الحضرمي واللحجي والتهامي وظهور شعر الغناء الصنعاني العذب الرقيق المعروف بالحميني ، والذي كان أشهر شعرائه آنذاك من القضاة والفقهاء..كونهم كانوا أكثر فئات المجتمع علماً وثقافة ورقياً ، وكان هناك العديد من المطربين الذين تناهى إلينا ذكر أسماء وأخبار بعضهم ، وبالطبع لم يتركوا بعدهم إرثاً صوتياً لإنعدام وسائل التسجيل والتوثيق الصوتي والمرئي آنذاك ، إلا أن أغانيهم وألحانهم ظلت تتناقلها الذاكرة الشعبية للأجيال حتى وصلت إلى آبائنا وفنانينا الرواد في العصر الحديث-قبل وبعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي-الذين كان لهم الدور الكبير والأبرز في إحياء وتجديد ذلك التراث الأدبي والفني ، ورفده بالكثير من جديد الشعر والألحان ، ولذلك كان عصرهم-الممتد لأربعة عقود تقريباً-هو العصر الذهبي للأغنية اليمنية والزمن الجميل لها بحق ، والذي يرى بعض المهتمين والنقاد-وأنا أحدهم-أنه لن يتكرر بمثل ذلك الزخم وتلك الطفرة ، وأن كل ما قد تلاه لا ينفك عن الثأثر به ولا يخرج أكثره عن نطاق التكرار والتقليد لنتاج رواده والتتلمذ أو التطفل على موائدهم ، وهي ظاهرة سلبية عامة أصيبت بها الأغنية اليمنية في العقدين الأخيرين رغم تطورها ونجاحها النسبي في الخروج عن الإطار المحلي إلى الاقليمي ووجود بعض محاولات التجديد والإبتكار التي لا تنكر لبعض فنانينا الألفيين الشباب وطموح البعض الآخر منهم-الذين لم يفعلوا ذلك حتى الآن-لفعل ذلك.
وفي اعتقادي الذي أقِرُّ به أنه لا بد فعلاً لفنانينا الناشئين الشباب في بداياتهم من أن ينطلقوا من التراث وان يتنالوا أغاني رواده بالتقليد حتى تنضج تجاربهم الفنية ومواهبهم وتستوي على عودها في العزف والأداء..على أن لا يستمر هذا الأمر فيما بعد هو ديدنهم الوحيد والدائم ، وأن يستندوا إلى شيءٍ من المعرفة والدراسة في علوم الموسيقى والأصوات ومقامات الألحان العربية قبل خوضهم ومشاركتهم في التجديد والإبتكار الذي نأمله وننتظره منهم ، وقبل الإنفراد والإستقلال بإنتاج أغاني وإلبومات خاصة بهم .
وعليهم في المقام الأول أن يكونوا ذوي ثقافة عامة واسعة وذائقة أدبية رفيعة تمكنهم من حسن اختيار الكلمات المناسبة للغناء وللجمهور والتي تحمل في مضمونها قيم جمالية ورسالة سامية ، وأن يكونوا من محبي الشعر والأدب وأهله وممن يعرفون للأدباء الحقيقيين قدرهم وفضلهم وينزلونهم في أنفسهم بمكانة كبيرة تليق بهم ، وأن يُدركوا أهمية العلاقة التكاملية التي يجب ان تقام بين الأديب والفنان المطرب..حيث لولا الأدباء وشعرهم لما كان للغناء ولا للمغنين وجود .. فالشعر هو الرافعة الأولى للغناء والارضية الصلبةالتي يقف عليها ، ومتى كان النتاج الأدبي الشعري في أي عصر ومصر هابطاً متدنياً في مستواه .. جاء الغناء كذلك تبعاً له ، أو متى ما رأيت الفنانين يبحثون عن الكلمات الرخيصة والهابطة وعن أصحابها-من أشباه الشعراء والأدباء-ويولونهم الإهتمام ؛ علمت عندها حجم الإنتكاسة الخطيرة التي سوف تصاب بها مسيرة الأغنية بعد ذلك.
ومما يلاحظ أيضاً على بعض فنانينا الشباب الذائعي الصيت في هذا البلد أن نفوسهم قد داخلها شيء من العُجب المُفرَط والغرور !! رغم حداثة تجاربهم الفنية وقليل ما قدموه واثروا به الساحة ..مقارنة بما قدمته أجيال الرواد الأوائل ، وكيف ان البعض منهم يغالون بأنفسهم وبفنهم جداً..محولين الفن والغناء إلى سلعة..غير مدركين أن التواضع يشكل لهم ولفنهم رافعة إضافية أخرى وان الفن قيمة جمالية في حد ذاته ورسالة سامية كما هو الشعر وكل أطياف النتاج الأدبي أيضاً وبقية الفنون.
ولعل مما ساعد على تفشي مثل هذه الظواهر السلبية-التي لمحت إلى ذكرها آنفاً- هو غياب دور النقد الأدبي والفني البناء وترك المهتمين من النقاد لمثل هؤلاء يسرحون ويمرحون ويعبثون دون رادع أو توجيه ونصح ، فمتى ما غابت عين الناقد الحاذق البصير..غابت معها بالتالي جودة الأعمال الأدبية والفنية.