الاخوة معشر الشعراء والشواعر الكرام : احتفالاً بمناسبة صدور مجلدي اعماله الشعرية الكاملة وللقيمة النقدية والمعرفية الهامة في الإفادة من آراء وخبرة هذا الرجل العملاق ، الغني عن التعريف..أحببت أن أجمع لي ولكم في منشورٍ واحد-يسهل الوصول إليه- أهم المقالات والخواطر عن الشعر والشعراء وقضاياهم وقضايا النشر الإلكتروني للشعر بمواقع التواصل التي قام بكتابتها ونشرها على يومياته-مشكوراً-الوالد الشاعر الفلسطيني الكبير/
محمود حسين مفلح
أمدَ الله لنا في عمره وعطائه ، واضعاً بذلك بين أيدينا خلاصة تجرتبته الغنية و الطويلة الممتدة لأكثر من نحو أربعةِ عقود مع الشعر وثلاثة أعوام مع النشر الإلكتروني بالفيس بوك الصادر له خلالها أكثر من عشرين ديواناً وفيما يلي هذه المقالات..أوردُ كلاً منها كما كتبها بالنص والعنوان :
” إذا كان لكل شاعر طقسه في الكتابة ؛ فإنني أكتب عند الفجر وبالقلم الرصاص وقربي الممحاة وأُسَوِّدُ النص ثلاث مرات على الأقل ، هذا جزء من المعاناة مع القصيدة التي يقرأها القارئ في خمس دقائق ”
1 – إعتراف :
أخشى أن يظن أحد – وأنا أتحدث عن نفسي قليلاً- أنني مصاب بالغرور أو أنني أبحث عن شهرة وأنا أزعم -ودون إدعاء فارغ-أن الله نزع من نفسي هذا الداء ، أما الطموح فكلنا يسعى إليه ، أقول : أنني بدأت بنشر قصائدي في مطلع سبعينيات القرن الماضي في الكثير من المجلات ، وكنت عندها حريصاً على جمع كل ما أكتب ، ثم طباعتها في دواوين حتى بلغت عشرين ديواناً وقد آن الأوان لأن تخرج هذه القصائد في أعمال كاملة…في جزءين وقد هيأ الله لي من الإصدقاء من تكفل بذلك وسوف تصدر الأعمال الكاملة قريباً بإذن الله بصفحاتها الألف تقريباً ، وكان عليَّ أن أراجع القصائد لتصويب الأخطاء ، وإبداء الرأي ، وعندما رجعت لي تلك القصائد التي كتبتها منذ أكثر من 40 عاماً ؛ شعرت بشيءٍ من الكآبة والحزن لأنها لم تكن بالمستوى الذي أرضى عنه الآن ، رغم أنها لقيت في حينها قبول الكثيرين وإعجابهم ومنها ما أصبح نشيداً ، ووجدت أن تجربتي الشعرية مرت بمراحل معقدة غيرت طعمها وخط سيرها ، وكثيراً من مضامينها ، وكأن قصائدي الأولى ليست لي !! ، إذ غلب عليها نزق الشباب والمباشرة ، وحب الوصول إلى الناس وفقر الأدوات الفنية ، وضيق الأُفق أحياناً ، فماذا كان عليَّ أن أفعل..؟! ، هل استبعد هذا الكم الكبير من القصائد..مكتفياً بما أقتنع به..؟! أم أضع تجربتي بعجرها و بجرها بين ايدي القراء والنقاد معاً..؟! ، وإن كان لي من نصيحة -لأبنائي من الشعراء الشباب- فهي استبعاد النطيحة والمتردية والموقوذة وما أكل السبع من قصائدهم ، عندما يُقدِمون على طبع ديوان ؛ حتى يبقى الأجود والأجمل ، والقادر على عبور الزمان والمكان ، وقد اعجبتني عبارة قرأتها حديثاً هي :
” أن الشعر هو فن الحذف أكثر منه فن الإضافة “.
2- الشاعر و التجديد :
ليس من المعقول أن يتطور كل شيء في هذا العالم إلا الشعر..!! ، وليس من المعقول أن يُتاح لنا ركوب الطائرة ونفضل ركوب الناقة…! ، وليس من المعقول أن يظل الشاعر يقاتل بأسلحة بدائية كالسيف والرمح ، وأن تظل المرأة ظبياً ووردة وعود بان وقصفة ر يحان…الخ ، ليس هذا معقولاً ، ثم إن أوزان الخليل ليست مقدسة وأن تظل سجناً للشعراء ، وكل من يتمرد عليها يكون مارقاً…!! مئات الشعراء كتبوا عن قضية فلسطين ولم تخرج قصائدهم عن التنديد بالإحتلال والبكاء على الديار والحلم بالعودة وعنتريات اخرى وصلت حد المهزلة…!! ، ألا نستطيع أن نعالج قضية فلسطين من زوايا أخرى أكثر إثارة ودهشة ، وأقل صخباً وضجيجاً ؟! ، وأن نمد جسوراً إلى كل من يتعاطف مع قضيتنا في هذا العالم – غير الجسور التي مددناها..!؟ ، إذن كيف يكون التجديد..!؟ هل يكون بالبناء اللغوي المختلف…؟! والسعي في تعديل تركيب الجملة العربية مع المحافظة على الأصول…أم بإختيار موضوعات غابت عن الأقدمين؟! ، والحياة تعج بالموضوعات ، هل للتجديد معجم لغوي مختلف كما يزعم الحداثيون..!؟، وهل يمكن أن يتطور الشاعر دون أن يتطور القارئ حساً وثقافة ورؤية فنية حتى يصبح قابلاً لاحتضان هذا الجديد.؟!
وهل التجديد الذي قام به بعض الشعراء مثل أدونيس، الماغوط، محمد عفيفي، مطر ، قاسم حداد -جماعةإضاءة77 ، الذين وجدوا ترحيباً من كثير من النقاد المهمين ، ثم محمد ابو دومة وحسن طلب ومحمد بتيس وسواهم…وسواهم ؛ هو التجديد الذي نصبو إليه..!؟ وهل يستطيع الشاعر أن يدير ظهره لما يجري حوله..!؟
وينشغل فقط بتجديد نصه شكلاً ومضموناً …؟! ، وما موقف الشاعر إذا رفض الجمهور تجديده ، وقالوا هذا نص لايمت إلى هويتنا ولا إلى ثقافتنا ولا إلى وجودنا الحضاري بصلة…!؟ ، وهل التجديد الذي طرأ على القصيدة الاوروبية يصلح أن يكون أساساً للبناء عليه..!؟ ، أسئلة كثيرة أرقتني ؛ كما أرقت غيري من الشعراء ، وهي بحاجة إلى إجابات شافية ومقنعة.
3- الشعراءُ و الندم :
كثيراً ما يندم الشعراء على قصائد كتبوها واسرعوا في نشرها لأسباب عدة…منها أنها كانت من البواكير التي لم تنضج بعد،ومنها أنهم أرادوا تغطية مناسبات آنية قبل فواتها لإثبات الوجود ، ولكنها كانت ضعيفة وساذجة لاترقى إلى مستوى الشعر المنشود….! ، ومنها أنهم وقعوا في تناقض صارخ فكرياً وعاطفياً ، وتأرجحوا من اقصى اليسار إلى اقصى اليمين..!! ؛ فندموا وكان للقصيدة اغراء لم يستطيعوا مقاومته ، وعندما استقرت تجربتهم فكرياً وفنياً ندموا ولات ساعة مندم…!
والأمثلة على ذلك اكثر من أن تحصى،فهذا -محمود درويش- تبرأ من اعماله الأولى (عاشق من فلسطين)،(حبيبتي تنهض باكراً)،(العصافير تموت في الجليل) وسواها ، وكان يتضايق جداً عندما يطلب منه الجمهور قراءة “سجل أنا عربي ” لأنه يعتبرها ساذجة ومن المراهقات الشعرية التي لا يُعتدُّ بها…! ، ولكنه لم يستطع التخلص من ضغط الجمهور ؛ فيستجيب لطلبهم على مضض…! ، وكذلك الشاعر الجواهري؛ شعر بعذاب الضمير عندما استعرض مسيرتهُ الشعرية وبعض قصائده إذ وقع في تناقض صارخ عندما مدح الأضداد…تقريباً…رؤساء اشتراكيين وملوكاً تقليديين ، مدحَ الملك فيصل الثاني في العراق ، ثم مدحَ قائد الإنقلاب العسكري عليه…عبد الكريم قاسم ، مدحَ حافظ الأسد ، ثم مدحَ الملكين المغربي..والأردني…!!، والجواهري يفخر أنه اشتراكي، وفيه لوثة شيوعية ، وأمضى ردحاً طويلاً من حياته في منفاه في براغ…تشيكوسلوفاكيا ؛ عندما كانت شيوعية، والأمثلة كما قلت كثيرة، إذن ماذا يفعل الشاعر..!؟ ، هل يقاوم اغراء القصيدة التي يتوقع أنه سوف يندم على كتابتها ، وما اصعب ذلك على الشاعر..! ، هل يخنق هذا الوليد ويتريث حتى تنضج ظروف حمله..!؟ ، لماذا نبادر الى نشر كل ما نكتب فوراً..؟! ، قبل ان يجف حبر النص…؟! ، وبعد سنوات سوف نبتسم ساخرين مما كتبنا لأن هذا الذي أسرعنا في نشره ليس شعراً قابلاً للخلود…!! ، أيها الشعراء : وأنا منكم لا تعجلوا في قطف الثمار ، فالعنب دائماً قبل الزبيب ، قاوموا إغراء القصيدة ، ورغبتها في الظهور على الورق ، لا تنشروا إلا ما تعتقدون إنه صالح للحياة حاضراً ومستقبلاً ، وأنه شعر حقيقي طافح بالشعرية ، حتى ولو قدمتم في العمر كله عملاً واحداً…! ، هذا ما أملته علي تجربتي المتواضعة ، وأن كثيراً من الشعراء الكبار ليس لهم سوى عملٌ واحد :
بغاثُ الطيرِ أَكثرُها فِراخاً
وأُمُّ النسر مِقلاةٌ نزورُ
أي أن النسر قليل الإنجاب ، ففي كل عام نسر واحد…!!
4- اللغةُ الشاعرة :
تشيع في كتب النقد الحديث عبارة اللغة الشاعرة ، وأنا أسأل : هل هناك لغة شاعرة ولغة غير شاعرة…؟! ، وما خصائص اللغة الشاعرة…؟! ، هل هي جموح الخيال وكثرة الصور البيانية…؟ وهل يستطيع الشاعر أن يجعل من لغة غير شاعرة…لغة شاعرة..؟! ، كما يُشكل الفنان من الصلصال العادي أروع الأشكال الفنية..؟ ، وهل صحيح أن الإبرة التي تخيط الكفن هي نفسها التي تخيط ثوب العرس…؟، وهل القصائد المكتنزة بالصور الغريبة الصادمة البعيدة هي دائماً الأجمل والأرقى…؟ ، أليس هناك نصوص شعرية تخلو تماماً من الصورة الفنية كُتِبَ لها الخلود والأمثلة كثيرة…؟
وما سر خلود هذه القصائد رغم غياب الصورة عنها…؟ ، هل هناك عناصر أخرى غير الصورة الفنية وراء جمال النص ورونقه…؟..ربما كانت أهم من الصورة نفسها…؟ ، وهل الشعراء هذه الأيام على صواب عندما يلهثون وراء الصور الغريبة المستهجنة…بحجة التفرد والإبداع…؟ ومن الذي أغرى شعراءنا بمقولة تفجير اللغة وغسلها من الماضي تماماً وكسر كل المعايير..؟..حتى بدأنا نقرأ نصوصاً لا تمت إلى أرواحنا وأذواقنا بصلة ، وليس فيها أي ملمح من ملامح تراثنا الذي أرجو ألَّا يكون فقيراً..كما قال بعضهم ؛ حيث قال بالنص : ” التراث ليس مركزاً لنا وليس نبعاً ولا دائرة تحيط بنا ، والشاعر لا يمتلك لغته إلا بمقدار ما يغسلها من آثار الأقدمين ، ويُفرغها تماماً من ملك الذين امتلكوها في الماضي ” .
5- الشاعر و التفسير :
في منتصف سبعينات القرن الماضي كنا في قاعة تصحيح اوراق الثانوية العامة لمادة اللغة العربية بدمشق…واختلفنا على شرح بيت من النص المطلوب شرحه وارتفعت الأصوات وكثر اللغط..! ، مما دعا رئيس القاعة إلى الإتصال بصاحب النص الشاعر سليمان العيسى ، وكان يومها موجهاً اولاً في وزارة التربية بدمشق…يسأله عن شرح البيت الشعري المختلف حوله ، وكان جواب الشاعر الكبير مفاجأة لنا جميعاً عندما قال : ” والله أنا نفسي لا أعرف المعنى تماماً…إتفقوا على معنى مناسب يتفق مع روح النص…المهم أن يحوم الطالب في إجابته حول المعنى العام وأن يتنفس هواء القصيدة “…!!
وكانت هذه الإجابة بطبيعة الحال من مصلحة الطلاب ، لأنهم جميعاً كانوا يحومون حول المعنى العام ويتنفسون هواء النص..!! ، وقد طرحت إجابة الشاعر الكبير قضية هامة…هل يحق لنا أن نطالب الشاعر بتفسير ما يكتب..!؟ ، وهل هو مُلزم بالإجابة عن استفساراتنا..؟! ، هل نعتبر كل تفسير للنص صحيحاً ومقبولاً ما دام النص قد أصبح ملكاً للقارىء بعد أن غادر أوراق منشئه..!؟ ، وليس من حق الشاعر أن يعترض على أي تفسير لنصه صدر من القراء فضلاً عنِ النقاد..!؟ ، هل يُصمم الشاعر فكرته ويُبلورها في ذهنه قبل أن يصبَّها على الورقة.!؟ ، وهل تكون في ذهنه واضحة كل الوضوح..؟ أم أَنه احياناً لا يعي ما يكتب؟ هل تولد الفكرة مع الكلمة الاولى للقصيدة وتبدأ بالنمو شيئاً فشيئاً كما ينمو الجنين تماماً في الرحم حتى يكتمل الحمل مع آخر كلمة في النص..؟! كيف تولد الفكرة التي تفرض على الشاعر إسقاطها على الورق..؟ أسئلة كثيرة تنتظر إجابات شافية ومُقنعة من اصحاب الشأن من القراء والنقاد والمبدعين وسواهم .
6- الشعراءُ الكبار وممتلكاتهم الشعرية :
يُقال أن الشعراء الكبار يصلون إلى مرحلة أن أحدهم يكتشف أرضاً جديدة يحرثها ويُعشبها ويضع فيها بذوره الإبداعية ، ثم يقوم بتسييجها حتى يمنع لصوص الشعر من السطو عليها…!! ، وهذه الأرض خاصة به ، وليس من حق أحد من الشعراء أن يقتحمها ؛ ففيها طقسه الشعري وطريقته في الكتابة وأدواته الفنية ، ومنجزه الإبداعي كله ، وكذلك تقنياته التي رسخها بعد معاناة طويلة ورحلة شاقة مع الإبداع
على الشاعر المبتدىء أن يغسل مفرداته و قاموسه الشعري وصوره الفنية من كل ما علق بها من آثار الآخرين…!! ، وأن لا يُفكر بالإقتراب من ممتلكات غيره..!! لا أدري أن كان هذا التوصيف منطقياً و مقبولاً ، أم إنه ضرب من الوهم والخيال غايته حث الشعراء على مزيد من التجاوز والإبداع طالما أن لكل شاعر كبير أرضاً تجاور أرض شاعر كبير آخر ، ولا تتداخل معها وأن كانت مجاورة ومنافسة لها…؟!
أم أن ما يختزنه الشاعر في ذاكرته هو ملك له يتصرف به كيف يشاء ومتى يشاء بشرط..أَلَّا يتكلف ولا يقلد ولا يتطاول على مقتنيات الآخرين .
7- وظيفةُ الشعر :
إذا صمت الشاعر إزاء ما يدور حوله من أحداث لبعض الوقت أُتهم بالسلبية والنرجسية…! ، وإذا نهض بتسجيل ما يجري حوله..جاء النص فجاً وفقيراً
وعجولاً ، ومن الصعب على أي شاعر أن يظل لاهثاً وراء الأحداث..راصداً ومسجلاً
، إذن ماذا يفعل الشاعر..؟هل ينتظر أسابيعَ وأشهراً…يلتقط فيها أنفاسه ليكتب نصاً مكتملاً مقنعاً..مستوحى مما استقر في ذاكرته عن هذا الحدث أو ذاك..؟
أم يشحذ أدواته الفنية ويستنهض همته الشعرية لئلا يفلت منه هذا الحدث وأَلا يكثر حوله اللغط..؟ ، وهل وظيفة الشعر هي تسجيل الأحداث وتوثيقها وملاحقتها..!؟ أم أن له وظيفة أخرى تقوم على الإكتشاف وتعميق الرؤية وخلق واقع فني جديد..!؟ بعيداً عن الإنفعال الطارىء والعاطفة الآنية التي تقوم على الفعل ورد الفعل…!؟ متسلحاً برؤية كونية شاملة وعميقة تبلورت من خلال قراءات متواصلة وممارسات مضنية…؟! ، هذا هاجس لا أتوقع أن أحداً من الشعراء الحقيقيين ينجو من ضغطه ، وعلينا ألا نتسرع في إصدار الأحكام على الشعراء إذا ما صمت بعضهم إزاء ما يجري من أحداث على الساحة فنتهمهم بالخيانة أو العمالة ، وإذا كنا أقل قسوة فبالأنانية والإنسلاخ عن المجتمع…!
8- الشعرُ والزخارف :
أقرأ بين الحين والآخر نصوصاً لشعراء معروفين-وأكثرهم من الشباب-أراهم فيها يُولون الجانب الشكلي الإهتمام الأكبر..يوظفون كل ثقافتهم عن البيان والبديع في كتابة النص..! ويتفننون في ذلك ، ويبدعون في رسم الصورة الشعرية المدهشة والغريبة أحياناً،والقائمة على توظيف كل جماليات البناء اللغوي والمحسنات اللفظية، وأنا أتابع هذه النصوص مأخوذاً بجمال الصورة وجدتها وغرابتها أحياناً ، ولكنني في نهاية القراءة لا أشعر بالتعاطف الحقيقي مع هذا النمط من الشعر ، ولا بالإنفعال العميق..! وبصراحة فأنني لا أجد لهذه النصوص أثراً في نفسي بعد أيام ! ، لأن الأُوكسجين الشعري فيها لم يحترق كله! ، وأن اللوعة التي أبحث عنها وراء الكلمات كانت غائبة، وبلغة النقاد القدماء فإن العاطفة كانت باردة ، إن لم تكن غائبة تماماً ، والنص لا يبوح بمعاناة حقيقية للشاعر ، ولا يكشف عن تجربة عميقة له ..! ، هؤلاء الشعراء بلا قضايا حقيقية ، بلا أوجاع ولا هموم.! الحياة من حولهم تفور وتمور وهم مشغولون بزخارفهم ، لا ينصهرون ولا يُلامسون أوجاع الناس وهمومهم ، يكتبون نصوصاً تدهش العين ، ولكنهم لا يكتبون النصوص التي تحرك المشاعر وتهز الإحساس ، هذا رأيي المتواضع..أقول إلى متى سوف تستمر هذه الموجة..؟! وإلى متى سوف نظل مأخوذين بالشكل الفني دون النظر إلى اللباب ، ودون الغوص عميقاً…لعلنا نصطاد لآلئ أكثر قيمة..؟! لأن الطلاء في كل بناء سوف يزول ، ويتبقى من البناء أركانه ودعائمه.
9- الشعراءُ والإنتشار :
أسئلة بريئة…ولكنها مشروعة ، ما السر وراء إنتشار بعض الشعراءِ وإنحسار بعضهم؟ ، هل هناك عوامل أُخرى غير الطاقة الفنية وحجم الإبداع لإنتشار هذا وانحسار ذاك؟، وحتى أكون أكثر وضوحاً…
لماذا إذا ذكر العراق -مثلاً- يقف إسم السياب والبياتي وبلند الحيدري على أنهم الأشهر؟! وقد أنجزت فيهم عشرات الرسائل الجامعية ، وما زالوا حاضرين بقوة في المشهد الشعري العربي!
ألم يكن في العراق غيرهم في حجم الموهبة وقوة الأداء..!؟ ، رغم أن أحداً لا يعترض على أنهم شعراء كبار ، ولماذا إذا ذكرت مصر تقفز فوراً أسماء صلاح عبد الصبور و عبد المعطي حجازي وأمل دنقل ، وكلهم شعراء كبار أيضاً ، ولكن ألم يكن في مصر إِلا هؤلاء يستحقون الذكر والإنتشار..!؟ ، ولماذا إذا ذكرت فلسطين تقفز أسماء -وبشكل آلي- كمحمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياد وفدوى طوقان ، وكلهم شعراء راسخون ، ولكن…هل هم الأفضل فعلاً على الساحة الفلسطينية..؟! ، أم أن القضية الفلسطينية -وهي مقدسة عند الجميع-كانت رافعة إضافية لهذا الإنتشار ، وربما كانت تسبقهم إلى الجمهور الذي كان يبادر بالتصفيق..!؟
وحتى أوسع الدائرة أكثر…هل جاءت شهرة ناظم حكمت ورسول حمزاتوف وبابلو نيرودا -مثلاً-من حجم الإبداع الحقيقي؟! ، أم أن هناك عوامل اخرى من خارج دائرة الفن أَثرت في هذا الذيوع..!؟
بإختصار أقول : هل هناك عوامل خارجة عن دائرة الإبداع تلعب دوراً في انتشار هذا وطمس ذاك؟! ، وهل هناك شعراء حقيقيون عاشوا وماتوا ولم يسمع بهم أحد؟! ، أسئلة بريئة…ولكنها مشروعة ، وقد تثير شهوة القارىء ليضيف إِليها ما يريد في إطار الموضوعية والإنصاف.
10- الأصلُ و الصورة :
كلما قرأت نصاً شعرياً على الفيس لأحد الشعراء الشباب..سمعت صرير قلم شاعر كبير على الورق وقفزت من بين السطور صورة ذلك الشاعر الرمز واضحةً جلية ، إن هناك شعراءً كباراً تركوا بصماتهم على قصائد الكثير من الشعراء الشباب وأثروا فيهم تأثيراً يُخَيَّل للقارىء أنهم لا يستطيعون التخلص منه..!! وللتفصيل أكثر..أقول : -وأرجو أن أكون مخطئاً- أن أكثر الشعراء اليمنيين من الشباب-مثلاً-متأثرون الى حد التقليد بالشاعر الرمز البردوني وكذلك شعراء الشام ونزار وشعراء فلسطين والدرويش وشعراء مصر وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور، وهناك استثناءات لا أُنكرها وإن كانت قليلة، ورغم أن هؤلاء الشباب قطعوا شوطاً في التجربة الشعرية ؛ إلا أنهم ما زالوا أسارى هؤلاء الكبار يدورون في فلكهم وينسجون على منوالهم ، والذي يُدرك كل ذلك هو القارىء المثقف والناقد الحصيف ، وكل ما أخشاه هو أن لا ينتبه الشعراء الشباب إلى هذا ، وأن يطمئنوا إلى نتاجهم ، ويظنوا أنهم ناجون من هذا التأثر الذي يصل إلى حد التقليد كما أسلفت ، وهذا يذكرني بما قاله توفيق الحكيم في هذا الصدد : ” ما أصعب الجهود التي ينبغي أن تبذلها النجوم لتضيء في حضرة الشموس..!! ” ، وقوله : ” عندما ينفك الشاعر من أسار مثاله الشعري وسطوته وجاذبيته ؛ عندها فقط نسمع دوياً أدبياً هائلاً..فنسارع الى القول الآن فقط ولد شاعر حقيقي جديد..له لغته وصوته ومداره ايضاً وكذلك بصمته الخاصة به ومن حوله سوف تدور كواكب شعرية جديدة..! ” ، أمَّا كيف يتم ذلك..؟! ؛ فإن الأمر متروك الى الشعراء الشباب واقتناعهم بهذا وحرصهم على الأخذ به .
11- غزل … غزل :
لا أعتقد أن أحداً معافى في بدنه..سليماً في ذوقه..يرفض شعر الغزل جملةً وتفصيلا..! بل على العكس فإنه الموضوع الأكثر قبولاً و رواجاً ، ولكننا نعترض على هذا النوع الرائج على شبكات التواصل الإجتماعي ، فإلى متى سوف يظل شعراؤنا يُرهِقونَ النرجس وهم يُشبهون به العيون..؟! والكرز وهو ينبت على الشفاه..؟! والخدود والورود وأعواد الزان والقدود والعنق العاجي والليل والشعر الطويل..؟!…إلى آخر ما هنالك من هذه الأوصاف الرائجة منذ مئات السنين..؟! أليست هناك طريقة أخرى لتناول هذا الموضوع ؟ رؤية مختلفة؟ طقس غزلي غير هذا المكرور والمطروق..؟! ، غزل يثير الدهشة والمتابعة معاً…ولا أدل على سذاجة بعض الشعراء من انهم يعرضون تحت قصائدهم الضعيفة صوراً لفتياتٍ جميلاتٍ مكحولاتٍ ممشوقاتٍ..إلخ ، لعل هذه الصور ترفع من القيمة الفنية للنص..! ولو رجعنا إلى تراثنا الأدبي لوجدنا فيه من انواع الغزل ما يهز القلوب ويُنعِش الأرواح :
يموتُ الهوى مني إذا ما لقيتُها
ويُضرى إذا فارقتها فيزيدُ
وذلك الشاعر الذي كانت أصابعه تُندَى وتُورِق إذا ما مَسَّ أصابع محبوبته ، وقد نسيت البيت ، وقول الآخر :
واللهِ ما طلعت شمسٌ و لا غربت
إلا و حُبُّكِ مقرونٌ بأنفاسي
ولا خلوتُ إلى قومٍ أُحَدِّثَهُم
إلا وأنتِ حديثي بينَ جُلَّاسي
ولا هَمَمتُ بشربِ الماءِ من عطشٍ
إلا رأيتُ خيالاً منكِ بالكاسِ
هذا شعرٌ عابرٌ للقرون ؛ لأنه يحملُ عناصر بقائهِ وحيويته ، ودائرة الحب والغزل أوسع بكثير مما ذكرت ومجالها كذلك أرحب ، ولكننا نحتاج إلى الآقتناع بأن قاموس الغزل الرائج قدِ استُهلِك ، وأن الشاعر الحق يستطيع أن يجترحَ برؤية نافذة وثقافة عميقة..أُسلوباً آخر للغزل ، أم أن للجسدِ الأنثوي عند كثيرٍ من الشعراء جاذبية يصعب الإنفلات منها..!؟
12- النخبة و الجمهور :
من عادتي حضور ندوة أدبية اسبوعية ، في صالون أدبي عريق عمره أكثر من نصف قرن..! ، وعلى ذمة من أخبرني ؛ فقد كان يتردد على هذا المكان كبار أدباء مصر (إبراهيم ناجي-علي محمود طه-علي الجارم-السحرتي -أحمد زكي أبو شادي- وغيرهم) ولكن الأمر الذي أثار دهشتي أن عدد الحضور في أحسن الحالات ما كان يزيد عن20 شخصاً !! ، وعندما تجرأت وسألت من يدير الجلسة-و هو شاعر معروف- قال لي : ” نحن يا أخ محمود لا نلتفت إلى العدد وأنا منذ 30 عاماً أُدير هذه الندوة..لا أذكر أن العدد قد زاد عما تراه..لأن الشعر فن النخبة وليس فن العامة” ..!! فقلت في نفسي : ما دام الشعر فن النخبة؛ فلماذا إذن يُعاب على الشاعر أنه لا يمس بهموم الناس ولا يُتقِن التواصل معهم..!؟وأنه متقوقع في برجه العاجي وأنه أناني ايضا؟! ولماذا أذن تقام للشعراء المنابر..عليها يتزاحمون..!؟ ليس هذا فحسب..وإنما يتفاخرون بعدد الحضور ما دام الشعر نخبوياً..!! كيف نستطيع -إذن-حل المعادلة..أن يكون الشعر نخبوياً وشعبياً في آنٍ واحد..؟! بمعنى آخر…كيف يستطيع الشاعر أن يحقق ذاته دون أن ينفصل عن جمهوره..!! ولماذا قال محمود درويش : ” أنا على إستعداد لأن أضحي بنصف جمهوري إذا كان عائقاً لمسيرتي الإبداعية..! ” تلك أسئلة راودتني وأنا أستمع إلى إجابة الشاعر الكبير ، ولا أظن أن كثيراً من الشعراء قد استطاع أن يحقق هذه المعادلة الصعبة..أن يحافظ على خصوصية التجربة الإبداعية ويقنع الناس أنه جزء من همومهم وأوجاعهم..! أن يكون شاعراً نخبوياً وشعبياً في الوقت نفسه..!
13- كيف…؟ كيف…؟ :
قضية تقلقني..وتقلق بالتأكيد غيري من الشعراء..كيف نستطيع أن نطور أدواتنا الفنية وأن نكتب نصاً مختلفاً عن كل ما كتبناه سابقاً ..؟ كيف نستطيع تحقيق منعطف حاد وجذري في مسيرتنا الشعرية..؟ كيف نستطيع أن نقلع اقلاعاً استثنائياً ولافتاً..؟! ، يؤسفني القول -وأنا أُتابع ما يكتبه أكثر الشعراء-وما أُبريءُ نفسي-أننا نكرر أنفسنا…! وأن قصائدنا الأخيرة تشبه قصائدنا الأولى مع فارق طفيف..كانها توائم..!! وأن المتابع الجاد والصريح يدرك ذلك ، الطاقة…هي الطاقة والتوجه هو التوجه والأدوات هي الأدوات ، الموت الحقيقي للشاعر أن يصل إلى مرحلة الإستنقاع الشعري وأن تأسن ينابيعه..! وهو يظن أنه على خير..! ما دام القراء يصفقون ويهللون ويمطرونه بكلماتٍ مثل..مدهش..رائع…عملاق…سيد الكلمات…إلخ هذه النغمة التي دارت حتى بارت!! ، كيف أقنع نفسي أولاً أنني ما زلت قادراً على تقديم المختلف والمثير..؟! وأن نصي الجديد لاينتمي إلى زمرة الدم نفسها لنصوصي السابقة..وأنني تخلصت-فعلاً-من ضغط الزفة وضجيجها..؟! ، كيف ومتى أستطيع تحقيق التوازن النفسي والمعادلة الصعبة؟! وهي أنني مازلت أتنفس هواءً جديداً وأخطو على أرضٍ لم يطأها الكثير من الشعراء..!؟ وقد تابعت سيرة بعض الكبار من الشعراء..فوجدت نصوصهم الأخيرة تختلف إختلافاً جذرياً عن قصائدهم السابقة..! ، كيف أطمئن على أنني لم أمت شعرياً على الأقل..!؟ حتى أُمزق الشرنقة ويقول القراء : هذه بصمة فلان..!! كيف..كيف..؟!
14- الشعراءُ و الإطراء :
أكثر الشعراء الذين ينشرون على الفيس هم شعراء من الطبقة الاولى…!! ولا أدل على ذلك من كثرة المتزاحمين على صفحاتهم وكثرة المعجبين ونوعية تعليقاتهم أيضاً..!! ، كل هؤلاء الشعراء متفوقون..بارعون..مبدعون..و…و…هكذا يعلق الأحباب…!! ، ولم أقرأ لأحد من المعلقين عبارة تتحفظ على بعض الابيات مثلاً أو بعض العبارات أو بعض الصور ، ولم يجرؤ أحد أن يقول: ” هذا بيت لم يعجبني لكذا وكذا…وهذه الصورة باهتة…وهذه المعالجة الفنية للفكرة تقليدية وشاحبة..أو هنا خطأ نحوي أو خلل في الوزن…الخ” وهو موجود في كثير مما ينشر…لم أقرأ كذلك لهؤلاء الشعراء شيئاً من التواضع أو الإعتراف بأن أحبابهم يبالغون وأنهم يؤذونهم بهذه المبالغة ، وهذا أقرب إلى الذبح منه إلى المدح…!! كما قال-محمود درويش- ذات يوم لمن بالغ في الثناءِ عليه : ” ارحمونا من هذا الحب القاسي…!!؟ ” ومنذ أيام قليلة فقط..قرأت لشاعرة تجاوزاً…كلاماً يخلو من الوزن ويعج بالأخطاء النحوية والإملائية ولا يمت إلى العربية بصلة أو قربى…ومع ذلك كان المعجبون والمطيبون والمبخرون والدجالون والمزيفون بالمئات!! ، والأغرب أنني أقرأ على الفيس أيضاً لرموز ثقافية معتبرة وأكثرهم أكاديميون راسخون…ومع ذلك لا أرى على صفحاتهم أكثر من عشرة معلقين ، لست ضد التشجيع لأن التشجيع نصف النجاح وكان شاعر فرنسا الكبير- هوغو – كلما كتب نصاً ؛ أسرع إلى خادمته يقرأه لها وهو يعلم أنها شبه أمية…فتقول من قبيل المجاملة : ” برافو…فكتور “..!! فيشعر بالفرح ، لست ضد التشجيع ولكنني ضد التسليع…!! ، لست ضد التوصيف ولكنني ضد التجريف الثقافي وكذلك ضد التزييف الأرعن ، هذه ثقافة الكثير من رواد هذا الجهاز…وهي بطبيعة الحال تعكس مرحلة تاريخية بائسة تمر فيها أمتنا..مع الإعتذار الشديد إلى أدباء حقيقيين وقراء حقيقيين..يعرفون قيمة ما يكتبون ويعتبرون الكلمة أمانة ثقيلة سوف يحاسبون عليها عاجلاً أم آجلاً…!!
15- لغتنا اليتيمة :
لا أدري إن كانت هناك على امتداد الوطن العربي جامعة تُدَرِّس جميع المواد-حتى الطب والهندسة- باللغة العربية غير جامعة دمشق..!! وحجة هؤلاء أن لغتنا لغة أدب وليست لغة علم..وهي عاجزة عن استيعاب مفردات الحضارة الحديثة ومخرجاتها…! ، والأفضل أن نُدَرِّسَ أبناءنا بلغة أجنبية ، وقدِ انطلت هذه الفرية على كثير من المثقفين وروجوا لها رواجاً كبيراً ، وأنا أعلم أن آلافاً مؤلفة من الشباب المسلمين -غير العرب- يتشوقون الى تعلم لغتنا والنطق بها..بل ويعتبرونها مفتاح الحضارة الحقيقية ، ومما يثير السخرية..أنني أقمت في بلد عربي مُدَرِّسَاً مُعاراً لتدريس اللغة العربية وفوجئت أن هذا البلد يُدَرِّسُ جميع المواد -حتى التربية البدنية-بلغةٍ أجنبية !! وذلك في المرحلة الثانوية أيضاً ، وعندما طُلِبَ إِليَّ أن أَملأ بيانات للحصول على إقامة رسمية ؛ هالني أنها كتبت بلغةٍ أجنبية ولا أثر للعربية فيها..!! ، وعندما سألتُ مُندَهِشَاً ؛ قيل لي : ” هذا شأننا..!! ” وقدِ التقيت بكثيرٍ من شباب هذا البلد ؛ فرأيتهم يتحرجون من الحديث بالعربية ، وإذا تحدثوا خلطوها بلكنةٍ أجنبية!! وسؤالي : هل كلمة” ميرسي” أجمل من كلمة ” شكراً “..!؟ إن هذه السياسة خرجت اجيالاً من الشباب لا هم أتقنوا اللغة الأجنبية ، ولا هم ألموا بلغتهم الأم…!! ، وإنني -وانا اقرأ على الفيس لشعراء وغير شعراء- أشعر بالاستغراب من كثرة الأخطاء النحوية والإملائية ، حتى من الذي تخرج من قسم اللغة العربية في جامعته..! ولا أدري ما سبب ذلك..؟! هل هو مظهر من مظاهر انهيار الأمة..لأن اللغة تتبع أهلها قوة وضعفاً..!! أم هي ظاهرة صحية وأنا لم أُدرك ذلك..!؟ هل هي سحابة صيفٍ وتمر..؟! لا أدري…لا أدري..!
16- الشعرُ والمضمون :
رأيت أن أكثر المعلقين على قصائد الفيس يهتمون بأفكار النص وأخلاقياته أكثر من إهتمامهم بالصياغة الفنية والبناء الجمالي الذي يتضمن صورة جديدة أو تركيب لافت أو خيال مركب ، صحيح..أنهم أُعجبوا بالنص ولكن أكثرهم لم يستطع تفسير هذا الإعجاب وكشف عناصر التأثير فيه..وأن التركيز على الجانب القيمي في النص يمارس ضغطاً نفسياً على الشاعر ؛ فيضطر الى سلق نصوص تعنى بالفكرة فقط..مُضَحِيَاً بما هو أهم من الفكرة في رأيي..جماليات هذا النص..وآليات الإبداع فيه..وبهذا يكون النص تقريرياً خطابياً ضعيفاً ، ولكنه يلامس هوى القارئ ومزاجه..!! ، إلا أن بعض الشعراء-وأعني الحقيقيين منهم- لا يلتفت إلى رغبة القارئ ومزاجه ولا يستجيب لضغطه النفسي..حتى ولو انفضَّ عنهم القراء جميعاً ؛ لأنهم لا يصغون إلا لصوت الإبداع في أعماقهم ، ذلك الصوت الذي لا سلطة عليه إلا سلطة النص وحده ، وقد لمست أن كثيراً من القراء لا يتفاعلون مع هذا النمط من الشعر-الذي تغيب فيه الفكرة وتذوب أو تتوارى-حتى يكون الإمساك بها صعباً ؛ لأنها ملفوفة بغلالة من الصور المركبة ، والاخيلة البعيدة والرموز وكل أنواع البديع المطلوب لإنجاز نص جميل ومقنع ، ومن خلال تجربتي مع الفيس ؛ فقد نشرت قصائد أعتبرها من أفضل ماكتبت فنياً وكان الإقبال عليها ضعيفاً..على حين نشرت قصائد أُخرى لم أكن راضياً عن مستواها كل الرضى نالت إهتماماً كبيراً..فهل يستمر الشاعر في إرضاء القارئ..فيضحي بالجانب الجمالي الفني على حساب الفكرة الواضحة المباشرة..فيثير زهد القارئ بما يكتب..أمِ العكس..!؟ ، وإن كان النقد قد حسم هذه المسألة منذ قُدامة بن جعفر وحتى يومنا هذا ، إلا أن كثيراً من شعراء اليوم ما زالوا يستجدون تصفيق قرائهم ، ويحبون أن يقولوا شعراً يدغدغ مشاعرهم وينال رضاهم وبعض هؤلاء الشعراء يعرف متى يصفق الجمهور..!! فيتوقف قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويغير نبرة صوته في إنتظار حرارة التصفيق..!! ، ولكن عندما يعرض هذا النوع من الشعر على ناقد حقيقي موضوعي ؛ فإنه يضعه في خانة الشعر الباهت الفقير!!
17- شاعرٌ تحت الطلب :
آمل أن لا أزعج أحداً بهذه الكلمات ولكنه رأيٌّ متواضعٌ ظل حبيساً في نفسي وأحببت إعلانه ، عجبت لبعض الشعراء-عندما توجه إليهم دعوات للمساجلة-كيف يسارعون -وخلال وقت ٍ قصير- إلى تلبية الطلب ، فيكتبون على المقاس الذي يطلب منهم وزناً وقافية وفكرة-وأنا أعلم أن أصعب ما يكون على الشاعر أن تطلب منه مثل ذلك..!- فالشاعر الحقيقي ليس نجاراً أو حداداً نطلب منه تفصيل أبواب ونوافذ على المقاس الذي نريد..!! صحيح..أن القصائد تأتي ملبية شروط الطالب وزناً وقافية وفكرة..وصحيح..أن البناء الفني فيها مرصوص مرصوف مثل حجارة القلعة..وصحيح..أنها تملأ العين ولكنها على الأغلب تفتقر الى روح الشعر وعطره ودهشته..فلا تثير إحساساً ولا تعكر مزاجاً ..!! ؛ لأن طبيعة الشعر المتمردة العصية لا تنسجم مع طلبات الزبون..وقد يظل الشاعر أياماً وشهوراً دون أن يكتب حرفاً واحداً !! رغم استجدائه للقصيدة وطلب ودها..وفجاة..تقع عينه على منظرٍ أو تسمع أُذنه كلمة أو تلمع في ذهنه فكرة عندها ينفجر الشعر ذاتياً..متدفقاً..عفوياً..متمرداً على الحدود والسدود ، وكم كان المتنبي يجد عنتاً في العثور على البيت الأول حتى إذا ما لمع كالبرق ؛ راح يخوض في بحر من الكلمات فلا يدري الشاعر الحقيقي متى تكون ولادة القصيدة؟! و أين؟! في السوق..أم في المقهى..أم تحت سقوط المطر..أم مع رشفات قهوة الصباح على شرفة بيته..؟! ، إنها طبيعة الشعر التي تقوم على الإلهام والعفوية والمراوغة والإندفاع وهذا كله يتنافى مع طبيعة الطلبات الخارجية ، إن أكثر القصائد التي تكتب حسب الطلب..هي ورودٌ من البلاستيك ليس فيها عطر الشعر ولوعته ، وهي الى النظم أقرب ، وكم يفرح المتسابقون عندما توزع عليهم الألقاب ، والبطاقات الذهبية والفضية ، وتملأ هذه البطاقات صفحات التواصل الإجتماعي!! هذا ما خلصت إليه وأنا أتابع ما أتابع ، ومرة أخري..أقول : أرجو أن لا أكون مخطئاً وأن لا أُغضِبَ أحداً من الإعزاء ، كما أرجو أن تستجيب لي القصيدة عندما يطلبها مني أحد على المقاس الذي يريد!!.
18- بطاقات…! بطاقات…! :
ظاهرة غريبة ولافتة، وهي كثرة انتشار البطاقات الذهبية والفضية والبرونزية، وبطاقات الشرف وبطاقات العضوية للشعراء وسواها ، ورأيت أن الشعراء يفرحون بهذه البطاقات الممنوحة..فرح الطفل بلعبة العيد..!! ، ويسارعون في نشرها على صفحاتهم ، وصفحات أصدقائهم …!! ، وفي هذه البطاقات عبارات ساطعة مثل : “الشاعر المتميز ” و ” الشاعر الكبير “..” الشاعر الرمز “..”الشاعر الفذ “…إلخ..!! ، وعندما أعود إلى قصائد بعض هؤلاء الشعراء ؛ أخجل من نفسي وأنا أقرأ نصوصاً لشعراء ما زالوا في الدرجات الأولى من سلم الشعر وبعضهم لم يتخلص من الأخطاء الإملائية والنحوية..فضلاً عن الإيقاع..!! ، وعندما أعود كذلك إلى سيرة المانحين ، والذين يذيلون هذه البطاقات بتوقيعاتهم وأسمائهم ؛ لا أجدهم شيئاً مذكوراً في المشهد الشعري العربي ، إِلا القليل…القليل حتى لا أظلم أحداً ، وبالتالي أقول : هل هذه البطاقات هي ذر الرماد في العيون..؟! ليتوهم السذج من رواد الفيس أنهم أمام شعراء راسخين..! ، هل هي ترويج لبضاعة كاسدة..شأنها شأن كل شيء في حياتنا اليوم..؟! هل هي دليل على فساد الذوق العام وغياب الضمير الأدبي..؟! هل هي حالة من حالات الإنتكاس في كل شيء؟!
لست أدري..! لست أدري..! أتمنى أن يقنعني أحد أنني على خطأ وأنني كتبت ما كتبت بدافع الغيرة ؛ لأنني لم ارتفع الى مستوى هذه البطاقات التي تمنح وتمهر بالتوقيعات الساطعة والاسماء اللامعة اللهمَّ لا شماته والله من وراء القصد.
19- زحمة السوق :
في زحمة السوق الشعرية والتصاق الكتف بالكتف والقدم بالقدم وتشابه الأصوات إلى الحد الذي لا يستطيع القارئ فيه أن يميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الشعر ، فكأنك وأنت تقرأ لشاعر تقرأ للشعراء جميعاً-مع بعض الاستثناءات طبعاً-الأسلوب..هو الأسلوب والملامح..هي الملامح وبصمات الكبار ما زالت تطبع أكثر هذا الشعر..حتى الموضوعات لاتكاد تخرج عن دائرة الغرام والهيام والتغزل بالبدر التمام…..إلخ..وقلما وجدتُ شاعراً من هؤلاء يحمل هم الامة على كتفيه وينزف قلمه وجعاً على ما حل بها..فكأنه ليس ابن بيئته ولا يمت إليها بصلة..؟! وأكثرهم ما زال يسبح في بحر نزار ولم يعالج موضوعات جادة من زوايا مختلفة..! ولهذا وأنا أقرأ الكثير من شعر الشباب لا أكاد أجد صوتاً متفرداً يدور في فلكه المستقل..! لا أعرف من الأسطر الأولى أن هذا النص لفلان..إذن كيف ينفلت الشاعر من هذا الزحام ويبتعد عن الجوقة ويعزف منفرداً ويُقنِعُ الناقد والقارئ معاً بأنه مختلف وأن له صوته الخاص وعزفه المتميز..؟! ودعك من كثرة الاصدقاء الذين يُوهِمون الشاعر بأنه يتبوأُ ذروة الشعر..بمطرهم الرخيص من الإطراء والثناء وقد ينسى الشاعر أن هؤلاء يسيئون إليه وقد أسهموا في بقائه-مكانك سر- لأنه اطمأن إلى أن ما يكتبه رائع وقنع بما لديه ، أقول : هذا الثناء المجاني هو الذي منع الشاعر من تحقيق إختراق نوعي في مسيرته الشعرية أو تجاوز ماضيه ، إنني دائماً ابحث عن الصوت المتفرد..عن الطائر الذي يغرد خارج السرب..عن القصيدة التي تحقق الفن والدهشة معاً حتى ولو لم يكن على صفحة هذا الشاعر صديق واحد..!! عندها سوف أعض عليه بالنواجذ وحتى لا أكون متشائماً ؛ فإن المبدعين موجودون ولكن ندرتهم تبعث على القلق.
20- أتمنى أن أكون مُخطِئَاً :
منذ أكثر من عامين وأنا أتابع ما ينشر من شعر على صفحات التواصل الإجتماعي ، وأعيد قراءة الأسماء التي تتكرر فيها ، وحتى أكون صادقاً مع نفسي على الأقل أقول وأجري على الله : إن أكثر من 90% مما ينشر ليس شعراً متميزاً مقنعاً يحتوى على عناصر الإبداع الحقيقي والدهشة المطلوبة ، وقد أضطر إلى نبش كومة من القش للعثور على حبات من القمح أو السير طويلاً على الشوك لأقطف وردة أو وردتين ، ومما يزيد الطين بلة..أن الطبالين والزمارين والمبخرين يلم بعضهم بعضاً ويكيلون المدائح لبعض بلا حساب ” شاعر مبدع – راية من رايات الشعر المعاصر” حتى أن الأمر وصل بأحدهم أن قال للآخر : ” منذ المتنبي وحتى الآن لم تنجب أُمتنا أفضل منك..!! ” ولم يدروا أن هذا هو الذبح وليس المدح..وأن رجلاً مثلي أمضى أكثر من 40 عاماً في قراءة الشعر ودراسته وتدريسه يستطيع أن يتبين الخيط الابيض من الخيط الأسود من الشعر..ولكن أكثر شبابنا لا يملكون هذه التجربة ولهذا فإنهم يقعون ضحية هذا الغثاء الشعري ، وهذا الركام الذي يجثم على صدورهم صباح مساء ، ومما يبعث على الضحك ؛ أن أصحاب هذه المواقع يمنحون بطاقات ذهبية وبرونزية وفضية لشعراء مازالوا في خطواتهم الأولى..وهم يمنحونهم أرفع الألقاب والأوسمة و…و…. ، وهؤلاء المساكين يصدقون وينشرون كل هذا على الصفحات المختلفة ، ومن عجب أنني تابعت الكثير من هذه الصفحات ولم أجد قصيدة واحدة لشاعر كبير مرموق ، وكلنا يعرف الأسماء الكبيرة في سماء الشعر العربي ، والعجيب أيضاً أنني عندما رجعت إلى صفحات هؤلاء الشعراء الحقيقيين لم أر فيها إلا القليل..القليل من الشعر ، فإلى متى سوف نظل نخوض في هذه البرك المعكورة..؟! ونظل نخدع أنفسنا ونخدع الآخرين ونروج لبضاعة كاسدة..!؟ ومتى يجرؤ الواحد منا أن يقول لصديقه : نصك ضعيف للأسباب التالية..أو يقول له : ليتك تعيد النظر في البيت الفلاني أو الجملة الفلانية-دون تملق أو حرج-ويتقبل الآخر النقد البناء الهادف بدل هذا النفاق الأدبي الذي طغى وبغى وتكبر وتجبر.
21- سوقُ الشعر :
كتب أحدهم يقول : ” زرت معرض الكتاب وفوجئت أن ركن الشعر فيه كان حزيناً يتيماً لا يقترب منه أحد..!! على حين أن الأيدي كلها تمتد الى الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية والنقد وغير ذلك ، فهل نحن في زمن الروايةحقاً ؟! وهل تخلى الشعر عن مكانته للرواية وغيرها..؟! فقلت في نفسي : لو كان في هذا الركن شعراء من طراز نزار قباني ومحمود درويش والبردوني وعبدالرزاق عبد الواحد وأحمد مطر بهجومه اللاذع على الواقع العربي حتى ضاقت به الأنظمة العربية ولم يجد غير لندن ملاذاً وهو الآن يعاني الغربة والمرض والتشرد بعيداً عن الفراتين ونخيل العراق شفاه الله ؛ لتغير واقع الشعر ، وكنت قرأت في إحدى الصحف العربية قبل ربع قرن تقريباً خبراً يقول : أن أكثر كتاب مبيعاً في معرض الكتاب في الكويت كان ديوان لافتات لأحمد مطر..!! وتجربتي الشخصية تؤكد ما أقول فقد طبعت قبل عشرين عاماً 12عملاً أدبياً بين شعر وقصة قصيرة على نفقة دور النشر وكانت ترحب وبكل تواضع بما أرسله وتطبع أحياناً من العمل5000 نسخة وتخبرني بعد عامين تقريباً أنها تود إصدار طبعة ثانية من الديوان ولكن..ومنذ 5 سنوات تقريباً لم أجد دار نشر واحدة تطبع لي على نفقتها مما اضطرني الى طباعة 4 دواوين على نفقتي الخاصة واحياناً لم أطبع إلا 200 نسخة وهذا شأن كثير من الشعراء الذين أعرفهم في عاصمة العرب..!! ولا أريد أن أذكر أسماء كثير من الشعراء الذين تحولوا إلى الرواية وحققوا فيها إنجازات هامة وحصد بعضهم جوائز مرموقة ، إذن ما العمل ..!؟ هل نحن فعلاً في زمن الرواية؟! هل تعاني الساحة الأدبية فقراً في الشعراء الرموز؟! كيف نستطيع أن نلقي في بركة الشعر صخرة كبيرة ليتحرك ماؤها ويعود الشعر الى ايام مجده ديواناً للعرب.؟! هل الإعلام الرسمي يتحمل قسطاً من ضمور الشعر وغياب رواده وهو يفرد مساحات واسعة لكل شيء؟! أسئلة كثيرة أربكتني..!! وأحببت أن أطرحها فلعل هناك إجابة شافية عند الإحبة من المنشغلين والمشتغلين مثلي بهذا الأمر.
22- قلقُ الشعراء :
لا أبالغ إن قلت إن هَمَّ الشاعر -أي شاعر-أن يكون متفرداً ومتميزاً وذا بصمة خاصة-وهذا من حقه طبعاً-ولكن هناك مقولة تقض على الشعراء مضاجعهم وهي مقولة نقدية قديمة..جديدة تؤكد أن الشاعر ليس هو الذي يكتب النص-مهما ادعى من فرادة-ولكن الذي يكتبه هم مئات الشعراء الذين قرأهم الشاعر وهضمهم..تأثر بهم..وليس للشاعر من أي دور إلا إعادة صياغة النص من جديد بطريقة أو بأخرى ، قد يغير بعض الألفاظ أو يضيف بعض الصور أو يلبس النص الأصلي ثوباً جديداً..ولكن جوهر القصيدة كتبها غيره من الذين سبقوه ، والناقد الحصيف الخبير يستطيع إعادة القصائد الى أمهاتها الشرعيات ، وإذا كان الناقد أكثر خبرة وإطلاعاً ؛ فإنه يستطيع إعادة كل بيت إلى أصله ، وهذه المقولة بطبيعة الحال تقلق الشعراء ، وتحبطهم وتسكب على حماسهم كثيراً من الماء البارد!! وهذا ما جعل شعراء الحداثة ينادون بهجرة الماضي وقطع الجسور معه والحرث في أرض بكر حسب زعمهم لم يحرثها أحد قبلهم وكسر المعايير الرائجة وإنتهاك حرمات اللغة والأخلاق أحياناً ، وأنتشرت مصطلحات راقت للكثير مثل : التجاوز ، تفجير اللغة ، شعراء بل آباء للوصول إلى مبتغاهم وهو تحقيق الفرادة والدهشة والإبهار..ألخ ، غير ذلك من هذه المصطلحات التي تعج بها كتب النقد الحديث ، ولهذا انتشرت انماط من الشعر غريبة عجيبة ، لا يمكن أن تستجيب لقارئ ، وهنا أذكر مثالاً لأحدهم قال فيه : ” إن قصيدتي كالمرأة الممنعة المستعصية ، أما قصائد الآخرين ؛ فإنها نساء مبتذلات..!! ولا تعجب إن قلت لك إن وراء هؤلاء الشعراء كتبية من النقاد الذين يشتغلون ليل نهار لتأصيل هذا التوجه وترسيخه في الشعر المعاصر وأن هناك مجلات حملت راية هذا الشعر بعد مجلة شعر..ومنها من ترعاها مؤسسات رسمية وما زال أدونيس والماغوط وأُنسي الحاج وتوفيق صائغ ونذير العظمة وسواهم يعتبرون آباء روحيين لكثير من شعرائنا ، أعود إلى قضيتي الأولى..لماذا إذن أكتب شعراً ما دمت أجتر الآخرين ولن أستطيع أن أسجل شيئاً بإسمي..!؟ ولماذا أكِدُّ ذهني في إجتراح ما أتوهم أنها صور جديدة !؟ هل أقتنع بهذه المقولة فأكف عن الكتابة..؟ أم أظل أسبح في النهر الكبير الواسع دون أن أشغل بالي بما يقوله النقد !؟ هذا ما يقلق كثيراً من الشعراء وينتظرون الإجابة المقنعة عنه..وما صحة هذه المقولة النقدية..؟! وأين نقف من شعراء الحداثة فيما ذهبوا إليه..؟!.
23- التحكيمُ و الشعر :
نحن لا نشك في نزاهة أية لجنة لتحكيم الشعر ولا في رغبتها في الإجتهاد والتسديد..ولكن هذا لا يمنع من وجود الخلل بشكل من الأشكال..!! فأعضاء أية لجنة ينتمون إلى بيئات ثقافية مختلفة وثقافات متباينة وقناعات فكرية قد لا تلتقي..وهم متسلحون بنظريات نقدية تعبوا في دراستها وهضمها وجاهدوا في تطبيقها وترسيخها في كتبهم ومقالاتهم المنتشرة..وحتى أكون أكثر صراحة أقول : إن ناقداً لا يمارس الشعائر الدينية-مثلاً – ولا يقيم لها وزناً..لا يمكن أن يختار نصاً ذا مضمون ديني..مهما كان حجم الإبداع فيه وأن ناقداً حداثياً أمضى حياته في الترويج لقصيدة النثر والدفاع عنها..لا يمكن أن يختار قصيدة يرضى عنها الخليل ابن أحمد – مهما كانت ذات وهج ابداعي أيضا..!! وبالمقابل وحتى أكون منصفاً أقول : أن ناقداً تراثياً بكل معنى الكلمة لا يؤمن بالحداثة الشعربة وبمقولاتها ولا يعترف بنماذجها لا يمكن أن يرشح قصيدة نثر أو قريبة منها..مهما حاول أن يكون منصفاً ؛ لإن صوت النقد في داخله لابد أن يكون له تأثير في القرار الأخير وأن الذوق الأدبي وحده لا يصلح أن يكون حكماً موثوقاً ؛ لإن الأذواق متباينة ومختلفة وهي تخضع لإعتبارات كثيرة ، ما هو الحل إذن..حتى لا يكون النص ضحية هذه الأمزجة والإتجاهات والقناعات والثقافات..؟! حتى ولو طليت التعليقات الأخيرة بطلاء المجاملات الواضحة غير المقنعة والتي لا تعدو أن تكون قشرة وراءها ما وراءها..ما العمل إذن..؟! كيف نستطيع أن ننصف الشعراء ونقنع الجمهور أننا نملك مفاتيح هذا الإقناع..؟! هذا ما أحببت أن أطرحه على الاعزاء من القراء..فلعل عندهم الجواب الشافي.
24- الشعرُ والإمارة :
قد يغري لقب ( الأمير ) كثيراً من الشعراء بل ويطمح كلٌ منهم أن يفوز به..وفي رأيي المتواضع أن طبيعة الشعر تأبى هذه التسمية..فكل شاعر أمير على رعيته وقصائده ، ويبدو أن هذا اللقب لا يغري إلا أبناء أمتنا-على عكس الأمم الأخرى-ومن الصعب أن تقنع أحداً أنك أفضل منه إلا إذا هو رضي بذلك ، وكثير من النقاد ما زالوا يتندرون على إمارة شوقي..حتى سَمَّاهُ بعضهم صنم الألاعيب!! وقيل أن د .طه حسين منح العقاد لقب أمير الشعر لتسلم له إمارة النثر حتى إنه قال في الإهداء لكتابه دعاء الكروان : ” هذا عش لكروانك ..إلخ ” وهذا حديث يطول..أما ما أريد أن أدخل فيه مباشرة..فهو أن إحدى الصفحات على الفيس أعلنت عن رغبتها في اختيار أمير لشعرائها بالإقتراع وبدأ الغليان المحموم والمجاملات التي بلغت حدَّ القرف..!! وأن نظرة سريعة إلى هذا السباق تظهر بجلاء أن العصبية القبلية ما زالت تتحكم في مزاجنا..وإن كل شاعر راح يرشح ابن قبيلته أو وطنه مع الإستثناء النادر-وأنا على يقين أن بعض الذين يمدون أعناقهم إلى إمارة الشعر ما زالوا يخطئون في الإملاء والنحو ولا تستقيم لهم الأوزان أحياناً-فإذا كانت النخبة المثقفة الواعية بهذا المستوى فما قولك للذين لا يقرأون ولا يكتبون ، أنا على يقين أن الحوار بينهم يومئذ سيكون بالخناجر وليس بالحناجر..!! ودائماً أقول : أرجو أن أكون مخطئاً وأن لا يكون في كلامي هذا شيء من المغالاة.
25- شاعر ٌ منتشر :
ليس لي أي موقف من أشكال الشعر ، وليس عندي عقدة من التسميات (قصيدة النثر-النثيرة-الشعر الحر-الكلاسيكي) فالذي يهمني هو الشعر -فيما أقرأ-و الشعر وحده..ولقد صبرت على قصائد تعج بالألغاز والطلاسم حتى لا أُتهم بالتخلف والجهل ولكن هذا لايمنع من طرح أسئلة موضوعية..تحتاج إلى إجاباتٍ مقنعة..لماذا ينتشر بعض الشعراء ويخبو بعضهم..؟! وحتى أكون واضحاً أكثر ؛ فإنني استشهد بشاعر واسع الإنتشار..تتسابق دور النشر على طباعة أعماله..!! وحتى أكون أميناً ؛ فإنني أقتبس شيئاً من سيرته الذاتية كما جاءت في أحد دواوينه :
– شارك في عدد من المؤتمرات والندوات الشعرية والثقافية العربيةوالعالمية.
-كتبت عن تجربته الشعرية عدد من الأُطروحات في الجامعات العربية والأجنبية.
-ترجمت أشعاره إلى عددٍ من اللغات الأجنبية.
– ترجمت مختارات أساسية من اعماله الشعرية من الجامعة الأمريكية.
-حصل على عدة جوائز عربية وعالمية.
وحتى لا أسترسل أكثر ؛ أنقل لكم إحدى قصائد له -لا على التعيين-من أحد دواوينه بعنوان (شمس بطيئة) :
كنا نحزمُ المدينة بالبحر
بالبريدِ الأزرق في الأفئدة
كلما عبرنا ردهة الدار
انبثقت تنهدات النساء
الوقورات في الليل
كلما طرقنا باباً انفتح الأفق
في قلوب مشغوفة بوداع الفقد
صقلنا الدروب المتربة
بخطوات عجولة
كانت البلدة عريشة
مفتوحة على البحر كله
فتلجأ لأعراس السفن
بشراعها الرشيق وصواريها الحانية
نشارك في تجهيز الخشب للماء
عربة البريد مهصورة في أحضاننا
لئلا يتأخر المسافرون في الغيم
والمدينة باب لشمس بطيئة
أقول: هل هذا هو الشعر الذي نطمح إليه والذي يمثل روح الأمة وثقافتها وهويتها؟! أترك الإجابة للقارئ الكريم وأنا أعلم أن بينهم أكاديميين ونقاداً وشعراء ومتذوقين..! المهم..الإنصاف والإنصاف وحده.
26- تجربتي مع الفيس ( أ ) :
أحدهم..كان يدافع عن شاعرٍ دفاعاً مستميتاً ويعتبره قمة الإبداع في الشعر العربي المعاصر ! ولَمَّا بينت له أن وراء هذا الشاعر آلة إعلامية ضخمة-وأنا أعرف ذلك من تلفاز وإذاعة وصحافة ورقية-وحسبه أن أكبر الصحف العربية تفرد لرائعته صفحة كل أسبوع ومع ذلك لم يقنع وقد عجبت وقد كتب ثلاثة أسطر فقط أنه وقع في أربعة أخطاءٍ نحوية وإملائية..!! فقلت له دون مواربة : ” يا أخي تخطئ في ثلاثة أسطر أربعة أخطاء وتريد أن تصنف الشعراء وتحكم عليهم..؟! ” ؛ فتوقف عن الكتابة ولم أعد أراه ..!!. بعض الشعراء الشباب يرسلون إِليَّ نصوصهم من باب حسن الظن لإبداء الرأي ومن عادتي أن أسأل الأخ عن مستواه التعليمي وكم أُفاجأ عندما يقول لي أنه تخرج في قسم اللغة العربية في جامعة كذا..ونصه يعجُّ بالأخطاء الإملائية والنحوية..وأنا أعرف شعراء حقيقيين -أطباء ومهندسين وصيادلة- تجاوزوا هذه المرحلة من الأخطاء من زمنٍ بعيد وقد رأيت أن أكثر أخطاء الشباب في الآتي :
– إضافة ألف بعد حرف العلة (الواو) ظناً منهم أنها (واو الجماعة) : يصفو..ينمو..يغفو..إلخ.
– لا يحذفون حرف العلة بعد الجزم : ” ولا تمشِ في الأرض مرحا “… ” ولا تقفُ ما ليس لك به علم ” ..إلخ.
– لا ينصبون إسم ( إن ) التي يأتي بعدها ظرف..بل يرفعونه ظناً منهم أنها خبر( إن ) : ” إن لدينا أنكالاً وجحيما ” …”إن وراءهم ملكاً يأخذ كل سفينة غصبا “…إلخ.
– لا يحذفون (ياء المنقوص) إذا تجرد من (أل) أو (الاضافة) : قاض..ناد..شاد..قاضي التحقيق …إلخ.
وهناك قضية هامة مطروحة للنقاش وهي : أن مأساة حلب استحوذت على اقلام الشعراء ..وهذا حقهم..بل الواجب عليهم ولكني رأيت أن أكثر ما يكتب تحت هذا العنوان..واقع تحت ضغط الفعل ورد الفعل وأنه أقرب إلى التسطيح والصراخ والتقريرية والإنشاء بعيداً عن جوهر الفن وقد سميت هذا رغوة شعرية سوف تزول بمرور الهدف ؛ لأنها لا تحمل من مقومات الإبداع ما يكفل لها التأثير والخلود ، وهنا أسأل : هل القضية المقدسةتشفع لقصيدة متهافتة فنياً وتمنحها تأشيرة دخول إلى عالم الشعر..؟! ولو قرأنا محمود درويش -وهو ابن القضية وقدِ انغمس فيها انغماساً-ما وجدنا في كل ما كتب ذكراً لفلسطين أو القدس أو أي عنوان صارخ من عناوين القضية..إِلا لِمامَاً ؛ لأنه ذوب القضية في ماء الفن والإبداع وليس العكس ، وهذا شأن أكثر الشعراء الكبار الذين قرأتهم…سامي مهدي ، على جعفر العلاق ، محمد علي شمس الدين ، عصام ترشحاني ، عبد العزيز المقالح ، وغيرهم..وغيرهم.
27- تجربتي مع الفيس( ب ) :
نشرت على صفحتي قبل فترة قصيدة رثاء لأخي الشاعر/احمد مفلح..قلت في بعض أبياتها :
أرثيكَ…أم أنتَ الذي ترثيني
أم فاضَ من عينيكَ دمعُ عيوني
أرثيكَ -أحمدُ- والكلامُ مُبَعثَرٌ
ماذا أقولُ ودمعتي تكويني؟!
ما كان أشهى أن يكون فطورنا
زيتاً وحباتٍ من الزيتونِ..!
وتقولُ -أمي-والحنانُ بوجهها
صبراً.. فأن الخبز في الطابونِ
إلى أن قلت :
لو أنصفوكَ لكنتَ في أحداقِهِم
ولأَبحروا في دُرِّكَ المكنونِ
والقصيدة طويلة…وكان تجاوب الأصدقاء ساراً..إِلا أن معظم تعليقاتهم أقتصر على عبارة ” رحمه الله ” وهذا طيب وأشكرهم على ذلك ولكن الأولى أن يتعرض القراء للجانب الفني من النص..ما الذي أعجبهم فيه..؟! الطريقة التي لجأ إليها الشاعر في معالجة موضوعه..! وما سر تأثرهم فيها مثلاً..؟! إِلى آخر هذه الملحوظات النقدية الضرورية التي تفيد الشاعر والقارئ معاً ، وعلى ذكر الرثاء فقد توقفت عند قصائد الشاعر/ محمد البياسي..في رثاء زوجه- بشرى- رحمها الله وللشاعر محبون ومتابعون بالمئات وهو أهل لذلك، ولكن معظم التعليقات كانت تنصب أيضاً على عبارة ” رحمها الله ” نعم… رحمها الله رحمة واسعة ولكن المسئولية الأدبية تتطلب غير هذا ؛ لأن الشاعر يكتب النص وهو بحاجة الى إِضاءته والتعرف على أسرار جماله واستبطان كلماته والكشف عن أسرار الدهشة فيه وقراء ة النص الحقيقي الذي يختفي وراء الكلمات الظاهرة..فالشعر ليس في الكلمات وإنما في ظلالها وامتداداتها في النفس وليس في المعنى وإنما في كيفية انتاج المعنى ولو تعرض عشرة بالمائة فقط من القراء إلى نقد موضوعي هادف ومستنير-وبعضهم قادر على ذلك- لأفاد الشاعر والقارئ كثيراً ، هل خرج -محمد البياسي-عن النسق الشعر ي الجاهز في الرثاء العربي..؟! والذي يقوم على التوجع والتفجع والمغالاة في ذكر محاسن المتوفى..؟! هل كتب بحبر الدهشة والاحتراق.؟! هل ابتعد عن الغنائية الشائعة في الشعر العربي وانحاز إلى التكثيف والتوتر..؟! لماذا كانت قصائده في رثاء زوجه مؤثرة حتى الدمعة وعميقة حتى اللوعة..؟! ما هي الآلية التي اعتمدها لتوليد المعنى المطلوب.؟! قاموسه الشعري بسيط ولكنه عميق..سهل ولكنه مُشِع..!! لم يعد مطلوباً من الشعر أن يقدم معنى بلِ الأهم أن يثير إنفعالاً وأن يفجر طاقات كامنه ، هل نجح الشاعر محمد البياسي في ذلك..؟! أروع الجرار ما يصنع من الطين العادي وأروع الأشعار ما كان من الكلمات البسيطة ودون مجاملة أقول : أن قصائد الرثاء عند محمد البياسي تستحق دراسة نقدية مستفيضة من ناقدٍ متخصص وموضوعي..يملك مصطلحاً نقدياً واضحاً لأنها -وبكل صدق-إضافة نوعية الى فن الرثاء في الشعر العربي ، ولو بذلنا قليلاً من الجهد في هذا الإتجاه وتخلينا عن عبارات الإطراء والثناء والمبالغة التي عَمَّت حتى خَمَّت ودارت حتى بارت ؛ لكان لنا أجران..أجر الصدق وأجر الإجتهاد..آمل أن تترك هذه الكلمات أثراً في التعامل مع النصوص مستقبلاً .
28- تجربتي مع الفيس( ج ) :
في أول عهدي بهذا الجهاز قبل عامين تقريباً وكنت قادماً من مقولات آمنت بها مثل:
” الصراحة في مرارتها خير من النفاق في حلاوته”
وقول عمر أبي ريشة :
شهدَ اللهُ ما انتقدتُكَ إلا
طمعاً أن أراكَ فوق انتقادي
وقع بصري على نص لإحدى الفتيات تُصَدِّرُ اسمها بكلمة “شاعرة” ، وعندما قرأت النص لم أجد فيه أثراً للشعر بكل المعايير الفنية وكتبت في التعليق : ” هذا نص نثري جميل ولكنه ليس شعراً ” عندها ثارت ثائرتها وأمطرتني بوابلٍ من الإنتقادات لم أسمع بمثلها من قبل مثل: ” من أنت حتى تنتقدني..!؟ ما مؤهلاتك الأدبية؟! من يسمع بك أصلاً ، أنت أقل من أن تنتقد نصوصي” ..إلخ ولَمَّا حاولت بكل برودة أعصاب أن أشرح موقفي وأُفصِّلَ في القول..أبت إلا عناداً وإصراراً والغريب أنني رأيت جيشاً من المصفقين والمؤيدين لها وكلهم يجمعون على أن ما تكتبه هو قمة الإبداع ومنتهى الجمال وهو من عيون الشعر..يتخندقون خلفها بشكل عجيب..!! ، ومن يومها لم أعد أقرأ لها شيئاً ؛ لأنها شطبت اسمي من قائمة الأصدقاء ، والموقف الثاني مع شاعر واسع الإنتشار ، غزير الإنتاج ، قمت بلفت نظره بكل أدب إلى بعض الأخطاء في الوزن والنحو ؛ فرد عليَّ : ” يا أستاذ محمود يبدو أنك لا تعرف أصول الحوار والنقد على الفيس والأولى أن تنبهني على الخاص ” وأنا يومها كنت لا أفرق بين العام والخاص..!! وبعدها بيومين كتب إِليَّ على الخاص أنني على خطأ وهو على صواب..ثم بعد ثلاثة أيام أعاد الكتابة إليَّ معتذراً وأنني أنا الذي كنت مصيباً..رغم كل ذلك فإنني لم أعد أقرأ له شيئاً لأنه ببساطة شطب اسمي أيضاً من قائمة الأصدقاء ، أما الموقف الثالث فقد كان مع شاعر يبحث عن أدواته الفنية ويكتب كثيراً ولما نبهته على الخاص-هذه المرة- إلى بعض الأخطاء عجبت من رحابة صدره ولطفه وترحيبه بهذه الملاحظات وما زال يلحُّ عليَّ في تسجيل ملاحظاتي حول شعره كلما وجدت إلى ذلك سبيلا ، أما الموقف الرابع فقد كان معي شخصيا عندما أستخدمت كلمة ” ثعبان ” مؤنثة في أحد أبياتي-وأنا أعلم أنها مذكرة -ولكنه إغراء الصورة الشعرية وضغط الوزن والعناد أحياناً..فنبهني إلى ذلك أحد الشعراء الفضلاء المرموقين بإسلوبٍ لا أرقى ولا ألطف..!! ولكن الحق أحق أن يُتَّبَع ؛ فقمت على الفور بالتصويب رغم أنني خسرت الصورة الفنية ولكنني ربحت الصواب ، أما موضوع اللغة المتداولة على الفيس..ما حدود الصراحة فيها دونما نسبة المجاملات؟! فإنني حتى الآن لا أعرف-صدقوني-هذه الحدود..! ولا أتقن هذه اللغة..! لأن وابل المجاملات والملاطفات قد أغرق الفيس وأهله..خاصة إذا كان النص لشاعرة!! وأكثر خصوصية أن كان لديها مسحة من الجمال أو كما يقول أهل الشام : ” في وجهها ضوء..!! ” والله المستعان.
29- تجربتي مع الفيس( د ) :
حين يكون الشعار أعلى من الشعر ؛ ليس من المعقول أن يرى الشاعر كل هذه الإنفجارات والإنهيارات على امتداد الوطن الكبير ولا ينبض له عرق أو يرف له جفن ، والشاعر ضمير الأمة ولسانها المعبر..أو على الأقل هكذا ينبغي أن يكون ما دام اختار أن يكون شاعراً .. فلا بد له من تناول هذه الجراحات شعرياً..لا خطابياً وأن لا يتخلى عن طبيعة الشعر التي تقوم على الصورة الجديدة والعبارة الموحية والرمز الشفيف…ألخ وإلا لما كان هناك فرق بين الشاعر والخطيب إلا في الوزن والقافية ، وهما عنصران لا يعتد بهما كثيراً في منظور النقد الحديث ، ومن خلال ما أتابع من قصائد في هذا الجهاز-وأكثرها يتناول الأحداث الجسام-أرى أن الجهارة والمباشرة والعمومية هي سيدة القصيدة وقد تخلى أكثر الشعراء عن جمالية الشعر وغابت عنه الطاقة الإبداعية التصويرية التي تعطي القصيدة قيمتها لتحل محلها الخطابية والمباشرة والوضوح الساذج والصخب الذي يقرع الأذن ولا ينفذ إلى القلب ، هل هي غواية الموضوع..؟! وسخونة الأحداث..؟! حتى يكون الشعار أعلى من الشعر..!؟ كما لاحظت في كثير من القصائد طاقة مخيفة من القنوط واليأس والتفجع وجلد الذات غير المسوغ وهناك تجاوز لحدود الشعر ومنطقه حين يخوض الشاعر في الإدانات الصريحة الفجة والشتائم السوقية التي تثقل كاهل النص وتخرجه من دائرة الشعر والتخفيف دائماً من غلو القافية وضجيجها أمر يحفظ للقصيدة نصاعتها وحيوتها ، ولا أجمل من الدخول إلى القلب من الخبرة الإنسانية والإنفتاح على ذرات الوجود الإنساني صحيح..أن الأحداث الكبيرة هي وقود القصيدة..ولكن تذويب هذه الأحداث في ماء الشعر وعطره هي الأولى والإهتمام بجماليات النص ياتي دائماً في المقام الأول.
تمت مقالاته وخواطره..وفي الختام – والكلام الآن لي- أتقدم بجزيل الشكر و التقدير لكل من مرَّ على هذه الخواطر النقدية لشاعرنا الكبير بالقراءة المتمعنة هنا في هذا المنشور الطويل..أو كان تابعها على يومياته وأثراها بالتعقيب والنقاش هناك في التعليقات ، والوالد الشاعر محمود مفلح بالرغم من ما هو فيه من الرسوخ و الإنتشار والذيوع منذ أربعة عقود بنتاجه الشعري المتميز الأصيل والغزير الذي شهد له بعلو قامته فيه الكثير من النقاد وتناولته بالبحث والدراسة حتى الآن عشر رسائل أكاديمية ما بين ماجستير ودكتوراه وليسانس..نجده بكل تواضع يقول لنا بمناسبة صدور مجلدي أعماله الشعرية الكاملة عن أكاديمية الإبداع المنبثقة من مؤسسة احياء التراث وتنمية الإبداع :
” من القلب شكراً أيها الأحبة ، لولا محبتكم وتشجيعكم ؛ ما كان لهذه الأعمال أن ترى النور ”
فنتعلم منه أبلغ درس في التواضع وعدم الإكتفاء عن معية تشجيع الغير ، وخواطره هذه كنت أتابعها بشغف..لأني وجدت فيها الإجابة عن كثير من تساؤلاتي المحيرة والتوجيه الذي كنت أحتاجه ، وبإعتقادي أن لو أحداً منا -معشرالشعراء الشباب-طلب منه النصيحة فأوعز إليه بقراءتها لكانت كافية له ووجبة دسمة مقدمة على طبق من ذهب ،وأعتقد أيضاً أن من أراد دراسة شعره وحياته الأدبية عليه ان يطلع عليها أيضاً..لما سيجد من أنها تعكس توجاهاته ورؤاه وأفكاره الأدبية المستقاة من تجربته ومسيرته الغنية والطويلة ، وهذه الخواطر التي يقول عنها شاعرنا :
” لا أدعي أنها مقالات في النقد المنهجي ، ولكنها خواطر نقدية أستوحيتها مما أقرأ على الفيس وأرجو أن تجد قبولاً عند القراء ”
تستحق أن تجد طريقها الى النشر الإلكتروني والورقي بطباعتها في كتيب صغير..وليت الله يقيض من يقوم بذلك ، فكم نحب أن يطلع عليها كل الاخوة الشعراء والشواعر الشباب بتمعن..لما فيها من الفوائد التي قد تنير لنا ولهم الدروب.